أمى
الأم ؛وما أدراك ما الأم!
أمي !
تذكرت أنى كنت أطرق بابك وانتظر،لم يفتح أبى ؛ لم أكن أوقن فى تلك اللحظة أنه قد مات منذ أكثر من عام ؛ أبحث عن المفتاح فى جيبي ، أفتح الباب ، يطالعني السكون ؛ أرى الردهة الطويلة شبه مظلمة ؛ ،أسير فيها حتى أصل إلى حجرتك المطلة على الميدان ،أسحب المقعد بهدوء وأجلس إلى جوار سريرك ، وسط آلامك كنتِ تسألينني دوما عن أحوالى، ألاحظ فى ملامحك الواهنة فرحتك بقدومى ، يزداد سروري بسرورك ، تحكين لى أحيانا عن أوجاع القرحة السريرية وآلام الساق ، تلتمع عيناك بالدموع ،أحاول أن أكبح ضعفي أمامك واكتم صراخا ينشب فى داخلى ؛ أتحامل على نفسى وأرسم شبح ابتسامة على شفتى ، تطلبين منى الذهاب الى الشرفة ، يا الله!! الى الشرفة والنظر منها صار أملا لكِ ! خطوات قليلة صار اجتيازها أملا لكِ
فى صغرنا كنت لا تكّلين ولا تملّين ، قبيل مرضك لم تقبلى أن يخدم معك أحد فى البيت ، ، حركتك المتصلة داخل المنزل كانت تدهشنا ، لا تفوتك فائتة ، تقومين بالنظافة وترتيب البيت ، لم تهملى سقيا الريحان والفل والياسمين ؛ توقظيننا من النوم حتى لا نتأخر عن مدارسنا ،وتحمميننا ،تذكريننا بالصلاة ، تجهزين لنا ملابسنا ، حتى أحذية المدرسة كنت تلمعينها ، وتساعديننا فى تجهيز الحقائب ، وتدفسين السندوتشات داخلها ، تنتظرين حتى نخرج من باب الشقة وتهرعين إلى الشرفة للنظر إلينا ومتابعتنا بنظراتك الحنون حتى نختفى عن أنظارك ونذوب فى زحام الشوارع ، عندما نعود إلى البيت تنفذ روائح طعامك الشهى الذى انفقتى الوقت فى إعداده إلى أنوفنا ،.
***
تمنحينني يديك ، أشعر بدفئهما فى يدى ؛ بالرغم من ضعفهما فما زالتا تحتفظان بنعومتهما ، أسحبهما برفق ؛ يتجاوب جذعك وتهمين للقيام تعتدل قامتك ، كنت أمتدح نجاحك فى كل حركة ، كأنك طفل يسعى إلى المشى أو يهم بإمساك الطعام بيديه أو يتعلم كلمة جديدة …ألصق المقعد المتحرك بالسرير ؛ أسحبك برفق لتجلسى عليه ؛ أمسك ساقيك معا وأنزلهما ببطء إلى المسند الأرضى حتى لا تتألمين، أحيانا أسمعك تأنين فى أذنى ويداك تحتضانى من رقبنى آه آه … تنغرس تأوهاتك فى قلبى وأراجع نفسى فى تحركاتى وتنقلاتك ، خطوة خطوة .. أعيد النظر فى أخطائى التى أجرمتها ، برفق أعدل ساقيك وانزل قدميك إلى أسفل ، أضعهما على المسند ، أدفع المقعد بك إلى الشرفة لكى ترين الدنيا؛ أرى فى عينيك البهجة ، أراهما تنتعشان .. تنتعشان بالتطلع إلى العالم ، فى تلك اللحظة ، عند ولوجنا إلى الشرفة يبدو أمامنا الميدان الواسع ، كنت حريصا على النظر فى عينيك لأرى فيهما حبك الشفيف للحياة ، تفرح عيناك برؤية الناس والبيوت والباعة والعربات والحيوانات الهائمة فى الطريق ، يتحرك نظرك بهدوء إلى أعلى تتطلعين إلى الشرفات المواجهة كأنك تطمئنين على أحوال الناس والعالم ، يستمر نظرك صاعدا إلى الفضاء تسعدين بمراقبة السحب والطيور العالقة بالسماء ، تهبطين بنظرك إلى أسفل ، تسألينني : أين السيارة ؟ سيارتك الجديدة ؟، تريدين أن تخرجى معى ، تركبين معى إلى جوارى ؟ هى رغبتى أنا أيضا ولكن !!
إنها ها هى !! تشيرين إليها بعينيك ..
تسألينني عن سقيا الفل والياسمين والريحان وتطمئنين عليها ، تسعدين برؤية لبلابتك المتسلقة ، عندما ترين ورقة ذابلة على الأرض ، تقولين : لا شىء فى الوجود يبقى على حاله…
***
دائما أتذكر كلمتك يا أمي ..
حقا ..لا شىء يبقى على حاله..
***
رضا صالح