باريس الألف وجه، ليوسف فرنسيس
«إنها شهرزاد الفرنسية التي لم تبح بكل حكاياتها لزائريها وعشاقها. وتنتظر دائما عودتهم لتبوح لهم ببعض الحكايات والأسرار».
ميدل ايست أونلاين
بقلم: أحمد فضل شبلول
للفنان التشكيلي، والكاتب الصحفي، والمخرج السينمائي الشاعري، يوسف فرنسيس (الذي رحل في 15 أبريل 2001 عن عمر يناهز 67 سنة)، كتاب صغير الحجم (128 صفحة) بعنوان “باريس الألف وجه”، صدر عقب إحدى زياراته السريعة لباريس. وهو بالتأكيد يختلف عن الكتب التي يضعها الدارسون والباحثون والطلبة، كتخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة الطهطاوي على سبيل المثال.
فكتاب يوسف فرنسيس يعد انطباع فنان عن باريس. ولأن باريس مدينة الفنون والعطور التي لا تهدأ ولا تستقر ـ طوال تاريخها ـ على حال، وإلا ملَّها البشر، ولأن يوسف فرنسيس فنان رومانسي يملُّ من النمطي والثابت، فإنه يرى في باريس كل لحظة، وجها جديدا. فهي “وجه الحسناء ذات الألف وجه التي ترتدي أحدث الموضات التي تخلقها وتتزين، وتتعطر، وتصبح أجمل الجميلات في معرض البشر”.
ويعود ليؤكد على ذلك في قوله: “نعم باريس حسناء، ذات ألف وجه، تتجدد مع العمر والسنوات، وجوه غنية ومثيرة .. شابة وناضجة”.
مخلوق واحد فقط في باريس، لم يتغير مع تغير المدينة كل يوم، إنه نهر السين الذي احتفظ بوجهه الرمادي ونفس الملامح المميزة.
ترى لو بُعث الشاعر بودلير والفنان ديلاكروا من قبرهما الآن، ورأيا باريس بعيون يوسف فرنسيس، لتغير إحساسهما بتلك المدينة التي تبعث على السأم كما وصفها بودلير، وتبعث على النفور كما رآها ديلاكروا؟
إن باريس التي تضم خمسة ملايين نسمة، ومليون بيت، “تحسن استقبال البشر، وتجعل ضيوفها يحسون أنهم أصحاب الدار، وتعرف كيف توفر لكل ضيف جوه الملائم، وتعرف أيضا كيف تشكل نفسها وتلون وجهها بألف لون، ولكن مقدرتها العجيبة على أن تكون نفسها في النهاية هي معجزتها الكبرى”.
ومن هنا فلا سأم ولا نفور من باريس. إنها مدينة تتجدد كل يوم، فهل لأن الغرباء والزائرين يشعرون أن المدينة مدينتهم لأيام أو لحظات، ينعكس الإحساس بالسلب لدى سكانها الأصليين، خاصة الشعراء والفنانين؟
ومع ذلك فإن النجاح في باريس ليس أمرا سهلا أو ميسورا على الإطلاق، فالشعور بأن باريس ملك للجميع، زاد الأمر تعقيدا، فلابد من أن يقدم المرء أفضل ما عنده، وألا يكون ما يقدمه منتجا مكررا ومعادا، بما فيهم أبناؤها، لذا فإن الذين نجحوا في باريس، هم الذين عرفوا الطريق إلى عقلها، فقلبها وهم تعطيه للجميع.
لذا تكثر الصرعات الفنية والصيحات الجديدة في عالم الموضة والأزياء والعطور، وأيضا في مجال الفن التشكيلي والسينمائي، وفي فنون الحياة بعامة. وإذا لم يكن الجديد يستند إلى موهبة حقيقية، وعبقرية فذة، قادرة على المواجهة والتحدي، فإنه سرعان ما يزول وينزوي، ويخسر كل شيء.
من هنا قدمت باريس ـ على سبيل المثال ـ بريجيت باردو أو ب. ب. الصناعة الفرنسية البارعة التي أقبل عليها العالم كله، فأصبحت من أهم منتجات فرنسا وشخصياتها العظيمة، ولا عجب أن خلال 425 ألف بنت ولدن في عام 1963 هناك 10 آلاف باسم بريجيت، الأمر الذي جعل الأديبة الوجودية سيمون دي بوفوار تحللها في كتاب رائع كشخصية وظاهرة اجتماعية تستخلص من شهرتها نتيجة تدين ذوق الرجل العصري بالمرض، فأنوثة بريجيت في رأيها ليست صارخة، وإنما هي أقرب إلى الغلام.
لقد حطمت بريجيت مقاييس الجمال، ففقدت فينوس مكانها التقليدي كربة الفتنة والجمال، كما فقدت منذ زمن بعيد ذراعيها. ففي العصر الذي نُحت فيه جسد فينوس كانت مثالا لجمال الجسد النسائي، أما اليوم فقد تغيرت النسب الجمالية، وأصبح جسدها القوي وخصرها الكبير رمزا لامرأة لا وجود لها في المجتمع العصري!.
وإلى جانب ب. ب. هناك قارئة “الموضة” التي تتمنى كل نساء العالم مقابلتها، وهي مايم أرنودين، المرأة الوحيدة في العالم كله التي تملك أسرار الموضة، كما يرى يوسف فرنسيس. وهناك أيضا بارباريلا فتاة المسلسلات المصورة التي تنشرها الصحف والمجلات.
وأديث بياف المغنية الفرنسية التي ماتت بعد أن علمت الحب لكل نساء باريس، وكان على صانعي النجوم في باريس أن يبحثوا، وبسرعة، عن مَن يملأ فراغها، فوجدوا الفتاة ميريي ماتيو التي نجحت نجاحا مدويا، لكنها بعد أن أفاقت من حلاوة النجاح، أرادت أن تستريح، ولكنهم لم يتركوا لها فرصة الراحة، فلابد لها من الظهور بشكل ملح ودائم لتشغل الناس، وتمتلئ خزائن صانعي النجوم.
وليس الأمر يتوقف على صناعة النجوم فحسب، ولكن هناك صناعة الموضوع الذي ربما يأخذ شكل الأزمة، لخلق الطلب عليه، ومثال على ذلك أزمة فيلم “الراهبة” الذي استمر إعداده ثلاث سنوات ومُنع نهائيا من العرض داخل فرنسا وخارجها، وهو إجراء حاد نادر الحدوث. وقد عرض الفيلم في مهرجان كان العشرين، وسط الأفلام المختارة وبإذن من وزير الثقافة الفرنسي نفسه.
وقد صنع هذا الفيلم نجومية الممثلة “آنا كارينا” التي ظهرت بعد ذلك على أغلفة المجلات تركب عجلتها الحمراء مرتدية ميني جوب ضيق ومثير، وتستند إلى إعلان الفيلم الذي تظهر فيه راكعة تصلي في ملابس الراهبة!
أما فيلم “الحب على مر العصور” فيكشف الصراع المميت الذي تخوضه السينما الفرنسية من أجل منافسة التلفزيون، والفيلم دراسة بالصور والوثائق لاقت نجاحا كبيرا في المكتبات، واعتبرت مرجعا لكل ما يمس أقدم علاقة إنسانية ولدت مع الخليفة لتدفع الحياة إلى الاستمرار.
ويكشف مقال “اشتر السعادة بفرنك واحد” عن الأحاسيس العاطفية المتدفقة التي يعيشها أهل باريس يوم الأحد، تعويضا عن الآلية التي يعيشونها طوال أيام الأسبوع في ظل عمل لا يرحم، وجدية لا فكاك منها.
ففي صبيحة يوم الأحد يهرب القطار ـ براكبيه من العشاق ـ من محطة الشمال معطيا ظهره إلى باريس في طريقه إلى أحضان الريف الفرنسي، فتتغير الصورة تماما، حيث يختفي الرمادي وتختفي البيوت العابسة، ويظهر خضار الغابة والحقول من كل جانب. ويستعد أهل الريف لبيع زهور البنفسج بما تحمله من شاعرية لا تقاوم.
إن أهل الريف يبيعون الزهرة بفرنك واحد، فيحملها العشاق ويسعدون بها حبيباتهم انتظار ليوم الأحد القادم. وفي هذا يقول يوسف فرنسيس: “زهور البنفسج في باريس لها معنى الحب، وتحمل في لونها الشاعري جاذبية لا تقاوم. أما في الريف فهي تصنع طعام العشاء لأكثر من أسرة تعيش من جمع زهور البنفسج من الغابة وبيعها للعشاق”.
ومن زهور البنفسج إلى لقاء سيدة المتحف العظيم، سيدة اللوفر ذات الابتسامة الخالدة، جيوكندة الأجيال، وحبيبة البشر، التي جلست خمس سنوات أمام الفنان ليوناردو دافنشي ليرسمها، والتي لا توجد صورة في العالم لها هذا العدد الهائل من اللوحات المقلدة. فما السر في ذلك؟
في هذا اللقاء مع الجيوكنده يجري يوسف فرنسيس حوارا ـ متخيلا ـ معها، ولكن يبعده حارس اللوحة ـ التي سُرقت من قبل في أغسطس عام 1911، ثم أُعيدت إلى اللوفر، وكان سارقها إيطالي الجنسية من فلورنسا، اعتبر أن سرقته عملٌ وطنيٌّ به يعيد اللوحة إلى موطنها الأصلي ـ في كل مرة يقترب المحاور من اللوحة يعطل الطابور الذي وراءه، فيتدخل الحارس من جديد، ليدفعه في رفق كي يترك الطريق للصف المنتظر.
ومن الجيوكنده إلى ليل باريس، ثم إلى وعد باللقاء، فشهرٌ في باريس لا يكفي سواءً مع يوسف فرنسيس، أو غيره من الكتاب والفنانين.
إن باريس تحب أن تترك دائما أثرا شاعريا في قلب زائرها حتى يعود إليها ثانية. إنها شهرزاد الفرنسية التي لم تبح بكل حكاياتها لزائريها وعشاقها. وتنتظر دائما عودتهم لتبوح لهم ببعض الحكايات والأسرار.
إن “باريس الألف وجه” ليوسف فرنسيس، مثاقفة باريسية من نوع جديد، لابد من أخذه في الحسبان، عند دراسة الحوار بين الشرق والغرب، وخاصة فيما يتعلق بالجانب الفني.
لقد سبق لفرنسيس أن أخرج فيلم “عصفور من الشرق” الذي أقنع فيه توفيق الحكيم، بالظهور على الشاشة، وكما نعرف فإن رواية “عصفور من الشرق” الصادرة عام 1938، تدور أحداثها في باريس.
كما سبق ليوسف فرنسيس أن شغل منصب مدير المركز الثقافي المصري بباريس عام 1987. ومن هنا تأتي أهميته، كفنان ومثقف وكاتب، وأهمية أعماله الإبداعية، في مجال المثاقفة مع الغرب.
أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية