الصورة الرقمية المزورة.. دليل علمي؟!
في الفيلم الكوميدي (The Land of The Lost) قصة عالم متغطرس (الدكتور مارشال) الذي يعمل على اختراع آلة للتنقل بين الأزمان والعوالم، يصل خلال رحلته بواسطة آلته العجيبة إلى زمن وعالم أخر في (ارض المفقودين) حيث تعيش الديناصورات. قبل رحلته التي حدثت بالخطأ، واجه الدكتور مارشال السخرية والتكذيب لأبحاثه عن الزمن والعوالم الأخرى لعدم وجود أدلة علمية تثبت صحة ما يدعيه. لذا حين واجه الدكتور مارشال ومرافقيه: العالمة الشابة المتحمسة لأبحاثه (هالي)، ودليل سياحي ساذج رافقهم بالخطأ (ويل)، يواجهون ديناصورا في الغابة، وفي أثناء قيام الديناصور بمطاردتهم في الغابة، أخرجت العالمة الشابة هالي كاميراتها المدمجة وقالت للفريق: نحتاج إلى صورة! ليعجب بها الدكتور مارشال وبمهارتها في حقل العمل لاصطحابها الكاميرا كوسيلة جمع الأدلة العلمية. ليطلب من (ويل) الساذج الوقوف في طريق الديناصور ليتقط له صور والديناصور في الخلفية، كإثبات لحقيقة سفرهم عبر الزمن والوصول إلى عالم أخر.
وقبل الاسترسال في هذا المقال يجب أن أنبه إلى حقيقتين/ الأولى أن هذا الفلم يعتبر من الأفلام الكوميدية الساذجة على مستوى القصة والخدع السينمائية والأداء، ولكنه كان جديرا بأن استأجره من الصندوق الأحمر في حين عوز سينمائي، لأجد هذا المشهد الجدير بالثرثرة عنه. والحقيقة الثانية أن هذا المقال أشبه بالدردشة أكثر مما يكون مقال نقدي تحليلي عن نظريات الحقيقة والصورة.
هنا الحوار من الفيلم حسب ترجمتي الحرفية له:
المشهد: الغابة/مطاردة الديناصور للفريق العلمي..
هالي: انتظروا، انتظروا نحتاج صورة.
د مارشال: مهارات رائعة يا هالي.
هالي: ويل.. قف هناك.
ويل: ماذا؟
د مارشال: هذه الصورة دليل إنني صادق.. نحتاج صور.
هالي: قف هناك يا ويل، نحتاجك كمعيار. (معيار أو مقياس لتبيان النسب والإحجام في الصورة)
ويل: معيار؟
هالي: مارشال..هل نحتاج إلى خاصية إزالة احمرار العينين؟
ينظر الدكتور مارشال إلى عيني (ويل) بتمعن.. ثم يقول..
نعم نحتاجها. عينيه بالفعل محمرتين.
ويل: يا الهي.. فقط التقطا الصورة!
هالي: حسنا، فقط قف بثبات/لا تتحرك. أوكيه. واحد اثنين ثلاثة ..( تك).. رائع.
إذا في الحقيقة أن عيني (ويل) محمرتين ربما من الخوف أو الإرهاق أو لأي سبب أخر. ولكن (هالي) ذات المهارات العالية في حقل الميدان، أدركت أن كاميراتها المدمجة مزودة بخاصية إزالة احمرار العينين، لذا تسأل الدكتور مارشال عن مدى الحاجة لاستعمالها، فيقوم الدكتور بالتأمل في عيني ويل الخائفتين بينما الديناصور منطلق من الخلف باتجاه الفريق ليقول نعم نحتاجها.
وقبل ذلك، ولان هالي (شاطرة) كعالمة ميدانية أدركت مدى الحاجة إلى معيار في الصور ليتضح مدى ضخامة الديناصور مقابل الإنسان بدلا من أن تلتقط صورة للديناصور في الغابة ستكون صورة علمية وبموثوقية أكثر حين يمكن الاستدلال على حجم الديناصور مقابل حجم الإنسان.
المغالطة التقنية الأولى هي أن خاصية إزالة الاحمرار في العينين في الكاميرات الرقمية هي خاصية تستعمل في التصوير الليلي خاصة أو الإضاءة المنخفضة لإزالة الاحمرار الناتج عن ضوء الفلاش حين يخترق بؤبؤ العين المتوسع طبيعيا بسبب الإضاءة المنخفضة ومن ثم يتسرب الضوء إلى الشبكية عاكسا لون الدماء الحمراء.. لذا تقوم الكاميرات (في حال تفعيل خاصية إزالة احمرار العينين) بإرسال ضوء متقطع ضعيف لعدة مرات قبل التقاط الصورة ليقوم بالتأثير على بؤبؤ العين الذي يتفاعل طبيعيا مع هذه الإضاءة ليضيق لذا لا يسمح بمرور ضوء الفلاش الحقيقي حين تلتقط الصورة. وفي هذه الحالة فالعالم الدكتور مارشال حينما قال إن عيني (ويل) تبدو حمراء فهو يعني أن بياض العينين محمرا. ورغم إنني قلت إنها مغالطة تقنية إلا أنها قد تكون (نكتة) مقصودة لا يدركها إلا من يعرف كيف تعمل خاصية إزالة احمرار العينين. والطرافة هنا او النكتة هي جهل الدكتور العالم بهذه الخاصية التقنية! وبغض النظر عن كونها مغالطة تقنية باستعمال معلومة في غير محلها أو كونها نكتة مقصودة على جهل هذا الدكتور فهي ليست موضوع هذا المقال.
الفكرة المهمة هي حين قال الدكتور مارشال ليقنع ويل بالوقوف في طريق الديناصور معرضا نفسه للخطر: هذه الصورة دليل! نحتاج صور. إذا أبحاث الدكتور مارشال ومحاضراته وكتبه لم تقنع العلماء والعامة وحتى الأطفال بما قاله عن السفر عبر الزمن والعوالم الأخرى، ولكن صورة واحدة، صورة واحدة فقط ستثبت ذلك!
وهالي الشابة الذكية المتحمسة تدرك ذلك، لذا تحمل كاميراتها معها لجمع الأدلة! وهذه الأدلة ليست عينات من صخور ونباتات وحيوانات بل أدلة عبارة عن بكسلات. عن صورة رقمية معدلة/مزورة أيضا، حيث أن واقع عيني (ويل) في الحقيقة/الواقع مختلف عن ما تبدو عليه في الصورة/الدليل التي تعتبر صورة للحقيقة وناقلة لها!
إن احد أكثر الأسئلة طرحا، خاصة مع التقنيات الرقمية الحديثة التي أتاحت التلاعب والتعديل في الصورة حتى في أصعب وأحرج الأحوال كما يصورها الفيلم في مشهد ساخر (إنسان في مواجهة ديناصور) ومع ذلك هناك مجال للتلاعب الرقمي، هو كيف أصبحت الصورة دليلا علميا، وشكلا موثقا للحقيقة! وإذا كانت العلاقة بين هكذا أسئلة يجب أن تعود بنا إلى بدايات هذه الترافق بين الحقيقة والصور الضوئية فأن السؤال الأكثر ضراوة وإلحاحا هو كيف تكون الصورة الرقمية القابلة بكل سهولة إلى التعديل والتلاعب وربما العبث دليلا علميا. كيف تصبح الصور الرقمية التي هي في طبيعة عملها شكلا مشكوكا به في تجسيد الواقع دليلا أكثر مصداقية من عينة طبيعية أو من بحث علمي؟ كيف يمكن لهكذا مجموعة من البكسلات الهشة أن تصبح غاية أكثر منها وسيلة في سبيل نقل الحقيقة وتوثيقها؟ هكذا أسئلة لا يمكن إسقاطها على هكذا مشهد ساخر في فيلم كوميدي إلا إنها هي أسئلة الواقع التي يصورها الفيلم بسخرية أو بدون وعي.