قراءة في اللقطة التأسيسية في فيلم مملكة السماء
اللقطة التأسيسية بشكل عام هي أول صورة يشاهدها المشاهد في الفيلم السينمائي. يمكن أن تكون فيها حركة أو تكون لقطة ثابتة أشبه باللقطة الفوتوغرافية أو لقطة متحركة. اللقطة التأسيسية يمكن أن تكون بين كل مشهد ومشهد. أيضا، ليس كل فيلم يحتوي على لقطة تأسيسية وليس كل مشهد مشروطا بوجود لقطة تأسيسية.
ولان اللقطة التأسيسية كتكنيك سينمائي ليست محور حديثي هنا، إلا انه من المهم القول أن أهم ما يفترض أن تقوم به اللقطة التأسيسية هي إعطاء المشاهد لمحة عن مكان القصة أو أجواءها. يمكن أن تكون لقطة إخبارية ويمكن أن تكون لقطة تشويقية لتوريط المشاهد في الفيلم والأحداث اللاحقة، يمكن أن تكون، أيضا، لقطة فنية ليس إلا.
فيلم مملكة السماء Kingdom of heaven بشكل عام من وجهة نظري فيلم مشوق بصريا ولكنه من الناحية التاريخية لا يخلو من المبالغات وربما المغالطات، حتى لو لم يصنف كفيلم يقوم على قصة وأحداث حقيقية. وتظل الأفلام التاريخية محل شك دائم لان التاريخ المدون/المكتوب دائما ما يكون محل اختلاف وعندما يصوّر-التاريخ- تلعب الصورة دورا إضافيا في زيادة الجدل والاختلاف.
اللقطة التأسيسية في فيلم مملكة السماء من أجمل وأقوى المشاهد التأسيسية التي شاهدتها. وهي لقطة مصنوعة بشكل احترافي من الناحية الجرافيكية ومن الناحية البلاغية. ففيها كما توضح الصورة المرفقة هنا، الصليب الضخم الذي يحتل جزء من مقدمة الصورة في جو صباحي بارد، ومن بعيد، يظهر فرسان على خيولهم في الجهة اليسرى من خلفية الصورة بصور ظلية/سيليوت لا تظهر التفاصيل بقدر ما تظهره فكرة تحرك جيش، ليس باتجاه الصليب بقدر ما أنهم يتحركون من أمامه في البعيد، وهو – الصليب- الذي ضخمته زاوية التصوير المنخفضة وعدسة الكاميرا الواسعة، يبدو كجنرال يراقب ويأمر. أيضا في السماء الواسعة تحوم غربان، في دلالة مباشرة لما سيأتي من مشاهد.
حركة الفرسان المتقدمين بخيولهم تشير إلى استمرار الحملات الصليبية المنطلقة من أوروبا. الصليب، الذي جعلته الكاميرا اكبر من الحياة، واقف بصمود وهيبة ممثلا السلطة الدينية في تلك الفترة التي كانت تلعب فيها الكنيسة دورا كبيرا في تحريك الناس والحياة بشكل عام في أوروبا في العصور الوسطى/المظلمة بالنسبة للأوروبيين.
اللقطة التأسيسية الذي أوحى لنا بالأجواء العامة،اخبرنا أيضا بان المكان فرنسا والفترة هي القرن الثاني عشر وتحديدا قبل الحملة الصليبية الثالثة. في اللقطة التأسيسية، أيضا، رافقت الصورة (اللون والأحجام والأشكال والحركة…) موسيقى/أصوات واقعية وهي نعيق الغربان وصوت الرياح. وكل هذه الدلالات البصرسمعية تعزز الفكرة العامة والرئيسية للفيلم عن أوروبا في تلك الفترة.
في المشاهد القليلة اللاحقة نرى أن الصليب بأحجام وأشكال مختلفة وبدلالات مختلفة يظهر في أكثر من مشهد: في رقبة زوجة الحداد باليان قبل دفنها، ويقوم القس بنزع الصليب من رقبتها ثم يتجه إلى الحداد (باليان) ويحاول إقناعه بالاشتراك مع الجيوش الصليبية بصفتها حرب دينية مقدسة وسبيل باليان للوصول إلى القدس، ليقرر باليان الإيمان بالصليب والحرب ثم يقتطع صليب زوجته مرة أخرى من عنق القس بعد قتله. والقدس في حوار القس والحداد –وفي أوروبا بشكل عام في تلك الفترة- ليست القدس المدينة فقط فهي مركز الكون لطلب المغفرة، ومركز للثراء أيضا. وكذلك الصليب الخشبي الضخم في اللقطة التأسيسية، ليس صليب فقط، انه السلطة الدينية الضخمة المسيطرة.
إذا، بدون شك أن تلك اللقطة التأسيسية –العشر ثواني – بليغة جدا وذكية وليست بغريبة أن تشحن تلك اللقطة بكل تلك الدلالات فمخرج الفيلم (ريدلي سكوت) مخرج محترف يدرك قيمة مثل تلك اللقطة بالإضافة إلى انه يتميز كمخرج بالعناية بالتصوير السينمائي الأخاذ في أفلامه.