من قبل صور دير الزور.
“جلال حسن”.. خيميائي الضوء واللحظات الهاربة
الاثنين 24 أيار 2010
«تبدى لنا العام الجديد بصورة/ تشابه حور العين في جنة الخلد/ فيا عجباً من وردة قد تفتحت/غلائلها في غير أزمنة الورد/ حباها “جلال” من روائع فنه/ فأضحت بجيد الدهر واسطة العقد».
بهذه الأبيات الجميلة التي مدح بها شاعر الدير الكبير “محمد الفراتي” الفنان الضوئي “جلال حسن” نبتدئ الحديث عن ذاك الرجل الذي كان فناناً بكل جوارحه، واستطاع في زمن لم يكن يظهر فيه ذاك الاهتمام بالتوثيق أن يؤسس لذاكرة بصرية خاصة بمدينة “دير الزور” امتدت ضفائرها لتغطي أكتاف الفرات، كعروس تنتظر الفجر، هذا الفنان هو “جلال المصور” كما يسميه “الديريون”.
بحثنا عن المهتمين بحياة هذا الرجل المبدع، فالتقينا بولده وهو الأستاذ “حسان جلال الحسن” الذي حدثنا عن والده بالقول: «ولد الفنان الراحل “جلال حسن” في “دير الزور” عام 1922، وكان والده يعمل بالتجارة، ويعتبر أول من أدخل تجارة الحرير الحديثة إلى “دير الزور”، كما كان والده رئيساً لبلدية الميادين، وقد طمح أن يكون “جلال” تاجراً مثله، وكان دائماً يؤكد عليه بعبارة: “كن تاجراً أنت لا تحسن الوظيفة”، ولكن طموحات “جلال” كانت بعيدة عن ذلك فقد مال للفن منذ صغره.
تم تعيينه في وظيفة حكومية في مديرية مالية “دير الزور” كرئيسٍ لمكتب “مُناظر الإنتاج الزراعي” مدة أحد عشر عاماً، واستمر في مالية “دير الزور” حتى عام 1952، إلى أن افتتح محلاً للتصوير في الشارع العام عرف باسم “استديو جلال”».
مرحلة جديدة خاضها “جلال حسن” نتابع تفاصيلها مع ابنه: «لم يترك والدي زاوية من زوايا “الدير” إلا وصورها، في الليل والنهار في الفصول كافة من الجو ومن الأرض، الجسور الأحياء، الأسواق القديمة المساجد، الحدائق، والحوايج النهرية.
كان فناناً متعدد المواهب فقد كان عازف ناي في نادي “الطليعة للفنون”، حين كان المرحوم الفنان “إسماعيل حسني” رئيساً لهذا النادي، وقام بالغناء على المسرح مراراً، وشارك في أوبريت غنائي بعنوان “عابر سبيل” ومسرحية “ضحايا”، وكان يقول عن نفسه أنه كانت تنقصه الجرأة، وكانت هذه المسرحية أول وآخر مسرحية يشارك فيها.
أما كيف فتح والدي محل التصوير فكان وراءه قصة، إذ كان المصور “بارسيغيان” يصور بنات “دير الزور” ويبيع صورهن بخمس ليرات سورية لشباب “دير الزور” الطائشين، فافتتح محله غيرة على بنات “دير الزور”، فكان الناس يرسلون بناتهم إليه من غير أن يكون معهم أخ أو أب، فيصورهن ويعطيهن الصور عندما تجهز».
كما أوضح الأستاذ “حسان” الخصوصية التي تربطهم كأبناء بأبيهم، إذ قال: «كان والدي صديقاً لنا وكان حنوناً لطيف المعاملة وقد دخل هذه المهنة منذ أواخر الثلاثينيات، واستطاع أن يلتقط “لدير الزور” الكثير من الصور الجوية الجملية والنادرة، حيث أقام والدي سنة 1983 معرضاً في المركز الثقافي “بأبي رمانة” واستطاع أن يكون سفير جمال للفرات حيث حضرت معه المعرض وترك انطباعاً جميلاً لدى الجمهور، وغير لديهم الصورة التي كانت مرسومة في أذهانهم عن “دير الزور” .
أصبح استديو والدي وقتذاك حجاً ليس لفناني “دير الزور” فقط، وإنما حتى لفناني القطر الوافدين لمدينتنا إذ أذكر من أصدقاء والدي الذين زارونا من الفنان “سعد الدين بقدونس” و”هالة شوكت” و”بسام لطفي”، وكلهم أخذوا صوراً تذكارية عنده.
ومن المفارقات الجميلة التي أذكرها عن والدي أنه أراد أن يصور المطر في الشتاء على شاطئ النهر، فتمكن من ذلك باقتدار، ولكنه دفع ثمن رغبته هذه ضريبة عالية، إذ بقي أسبوعاً كاملاً مريضاً في الفراش».
وفيما يتعلق بمشاركته في إحدى الندوات الدولية في “دمشق” أضاف الأستاذ “حسان”: «انعقدت هذه الندوة في الرابع من تشرين الثاني عام 1983 في المركز الثقافي “بدير الزور” وقد حاضر فيها مختصون وباحثون عرب وأجانب، وكانت هذه الندوة برئاسة الدكتورة “نجاح العطار” وزيرة الثقافة آنذاك، وأقيم مع هذه الندوة معرضاً فنياً للفنان الضوئي “جلال حسن” فقالت الدكتورة “نجاح العطار” بعد أن زارت هذا المعرض: “أهنئ الفنان الكبير فقد كانت لوحاته مميزة، تفيض بالشاعرية والشفافية، ومن خلالها يبرز جمال “الدير”، وتبدو بكامل روعتها، أدركت كيف يمكن للصورة الضوئية عبر هذا المخزون الداخلي، أن تكون موازية للريشة، وأن تستعيد الطبيعة صوتاً وشكلاً ورفيقاً ونغماً حلواً… مباركة اليد التي صورت، والمدينة التي صوِّرت”».
كما قال عنه الدكتور “علي سليمان” معاون وزير الثقافة والذي زار المعرض وقتذاك: «إنني من خلال معرض الفنان “جلال حسن” أرى بواكير حركة فنية، بل أرى مؤشراً هاماً لولادة حركة فنية، آمل أن تتسع وتتنوع فناً تشكيلياً، رسماً، نحتاً، شعراً، أدباً، فكراً… إننا من خلال معرض الفنان “جلال” ننتقل إلى الطبيعة بحنانها، وحيويتها، وقدرتها على الإيحاء، ونلمس من خلال هذا المعرض روحاً مشرقة، ومحبة لكل ما هو جميل وخصب، وقادر على الإيحاء روحاً مولعة بالطبيعة، بكل ما تختزن من مدلولات وإيحاءات».
كما كتب الأديب “ممدوح عدوان” يقول: «كل الخلق إلى الفناء، إلا الفن فهو باقٍ ما بقيت الحياة، و”جلال” فنان خلق الخلود، فله التحية والتقدير من القلب».
وذكر الأستاذ الأديب “سعد صائب” مثلاً فرنسياً، لخص انطباعه عن فن “جلال حسن” فقال: «يقول “تين” إن الأمة التي ليس لها فن ليس لها حضارة، وأشهد أن الفنان “جلال حسن” قد جسد هذا المثل بفنه الرائع مؤكداً أصالته، معبراً عن طموحاته في الفن الذي يبني حضارة».
كما كان لنا هذه الوقفة مع الباحث “عامر النجم” الذي حدثنا عن الفنان الراحل بالقول: «من يقول أن “جلال” مصور فقد ظلمه، ولم يعطه حقه، “فجلال” يتمتع بذوق فني عالٍ، فهو يعرف من أي زاوية يلتقط الصور بأبعادها الجمالية والفنية والتعبيرية.
وفي أحد الأيام كنت ضيفاً في بيته، وطلب مني أن أجلس بوضعية معينة، فالتقط لي صورة، وعمري اليوم 50 عاماً لم أصادف خلالها فناناً ضوئياً التقط لي صورة بهذا الإبداع، “فجلال” حفظ تراث ومعالم وأحداث “دير الزور”، وكان مصدراً للكثير من المطبوعات والدوريات التي زودها بصور ومعلومات، منها على سبيل المثال مجلة “الطالب العربي”.
وثّق بصوره الاحتفالات الرسمية، فيضانات النهر، بعض الشخصيات الرسمية التي زارت “دير الزور”، هذا عدا عن لقطاته الفنية لمواضيع الحياة المتنوعة، فمرة صور شيخاً طاعناً في السن وسمى هذه اللوحة “إيمان”.
لم يأخذ هذا الرجل حقه من التكريم وإبراز أعماله، حيث ذهب تاريخه وفنه في مهب الإهمال.
رغم أنه شكل حالة فنية فريدة، وهو يستحق فعلاً لقب شيخ المصورين الضوئيين في “دير الزور”».
ومن الفنانين التقينا بالأستاذ “عبد الجبار ناصيف” والذي أعطانا فهماً عميقاً لذهنية “جلال حسن” الفنية بقوله: «هذا الفنان يحمل إحساس وتفكير الفنان التشكيلي، وكان يعبر عن ذلك بالتصوير الفوتوغرافي، لذلك كان يبحث ضمن اللوحة الفوتوغرافية بتكنيكات متزنة وأساليب تتدرج من الرمادي في اللوحة الفوتوغرافية، وهذا الجانب قليل جداً من يدركه في التصوير الفوتوغرافي.
بالإضافة لهذا فإنه لم يكن يستخدم النور الاستخدام العادي المتعارف عليه، لكنه كان يستخدم النور لخلق تدرجات أوسع بالرمادي، بالإضافة إلى كونه كان يدرك تماماً أدق تفاصيل التصوير، وتوصل بنفسه إلى تقنيات مختلفة، وهناك جانب لا يقل أهمية عما سبق وهو أنه كان يستعمل واجهة الأستوديو كمعرض دائم للفن التشكيلي ودائماً نجد فيها لا يقل عن ثلاثة أعمال تشكيلية لمختلف الفنانين، وهذا يؤكد ما وصفناه به أول حديثنا عنه.
هذا الإنسان أعطى حياته كاملة للفن ولم يترك حالة اجتماعية أو ثقافية إلا وسجلها بكاميراته، بالإضافة إلى أنه كان يمتلك قدرة فنية يستخدمها في تسجيل هذه المواقف، وكان بطريقته الخاصة وبعلاقاته الشخصية يرافق طائرات الهيلوكوبتر في عمليات الإنقاذ، ويصور فيضان الفرات عندما كان فراتاً، ولا يخفى ما في ذلك من عناء.
وأكثر ما كان يميزه علاقته مع الفنانين التشكيليين فكان صديقاً لهم جميعاً وكان الاستوديو المكان الذي يرتاده مختلف الفنانين، فاستطاع أن يخلق بينهم حالة تنافس فنية جميلة جداً».
كما التقينا بالفنان “محمد القاضي” وهو خطاط له شهرته ليس عربياً فقط وإنما على مستوى العالم الإسلامي فوصف “جلال حسن” بالقول: «كان “جلال” فناناً ولم يكن صاحب محل تصوير فقط، كان محله صالة عرض لكل مبدعي “دير الزور” من خطاطين وفنانين تشكيليين، ولشدة حساسيته يصطاد الوجوه المارة، ويصورها بالمجان، إلى جانب أنه ظل يتعلم إلى آخر عمره، ودائماً تراه يبحث عن أساليب جديدة وطرق جديدة في التصوير».
وكما بدأنا بالشعر ننهي حديثنا بالشعر أيضاً، فمن قصيدة جميلة للشاعر الفراتي “عبد الجبار الرحبي” يتحدث فيها عن الفنان الضوئي “جلال حسن” اخترنا لكم هذه الأبيات:
«أبا حسان يا فنان نهر/ تفرد بالجمال وبالعطاء/ تفرد بالعباقر من قديم/ وبالإبداع في سنن العلاء/ وبالفن الرفيع له عطاء/ تخلد في الزمان بلا مراء».
** مصادر تم الرجوع إليها:
* مجلة “منارة الفرات” العدد العاشر، مقالة بعنوان “جلال حسن، رائد التصوير الضوئي” للمرحوم الباحث “أحمد شوحان”.