المخرج والمسرحي الراحل فواز الساجر من مواليد إحدى قرى منبج عام 1948.
حصل على شهادة ماجستير من معهد غيتس الروسي للفنون المسرحية.
ساهم في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية وعمل مدرساً فيه.
أسس المسرح الجامعي في حلب، كما أسس مع سعد الله ونوس المسرح التجريبي.
له العدد من المسرحيات منها:
مسرحية «رحلة حنظله من الغفلة إلى اليقظة»، ومسرحية تجريبية بعنوان «يوميات مجنون».
مسيرته وحياته
توفي فواز الساجر فجأة عام 1988 وهو في قمة الأربعين من العمر، بعد أن التمعت حياته الفنية كالشهاب. وكان قد عاد من موسكو بعد أن تخرج من معهدها المسرحي مخرجاً عام 1972. ثم سافر إليها مرة ثانية لنيل شهادة الدكتوراه في الإخراج المسرحي عام1982 . وعاد بعد أربع سنوات. وقدم آخر عروضه المسرحية (سكان الكهف)، وتوفي بعدها بعدة أشهر[1]. بعد وفاته أصدر الصديق الدكتور نديم محمد معلاّ كراسة صغيرة عنه. وكنا نتوقع أن تصدر عنه دراسات كثيرة. لكن ذلك لم يحدث، وكأن ثمة اتفاقاً حتى بين أقرب الناس إليه من الأصدقاء والزملاء على نسيانه وطيِّ الأثر الفني الكبير الذي تركه على العرض المسرحي. إن المخرج المسرحي يختلف عن الكاتب. فالكاتب تبقى نصوصه التي تتدارسها الأجيال، وتظل على معرفة به مهما تطاول الزمن لأنها أثر مكتوب باقٍ. أما المخرج والممثل فتزول آثارهما بمجرد الانتهاء من العرض المسرحي لأن العرض المسرحي حياة تعيش أياماً تقل أو تكثر ثم تموت. فلا يبقى منه إلا ما يذكره عنه المشاهدون الذين سرعان ما يطويهم الزمن. حتى لو صُوِّرت أعماله على أفلام تلفزيونية فإنها لا تحافظ على حرارة العرض الحي ولا تترك في المشاهد ما يتركه العرض المسرحي على المتفرج. وإذا تجاهلنا مخرجينا وممثلينا ولم نذكر لهم فضائل تطويرهم لفن العرض فسوف يحدث انقطاع بين الأجيال. وهذا الانقطاع لا يكون في افتقاد الجيل الجديد لتعليمية مَن سبقه فحسب، بل يكون الانقطاع أيضاً في اعتراف اللاحق بفضل السابق. ودليل ذلك أن كثيرين من شباب المسرح اليوم يقولون بشيء من استهانة واستهجان: لماذا تهتمون كثيراً بهذا الرجل؟ ومن هو هذا الرجل؟ وأعترف أيضاً أنني كثيراً ما تألمت من مثل هذا الكلام. وهذا الجهل بفواز الساجر وبما قدمه للمسرح السوري، يدعو إلى الحديث عنه لعله يوفَّى بعضَ حقه على المسرح السوري. وإذا تأخر هذا البحث عنه عشرين عاماً حتى جاءت ذكرى وفاته، فإن جريدة (النور) فتحت صدرها بالكتابة عنه، لما فيه من الدروس والعبر الحياتية والدروس الفنية لمن أراد أن يترك أثراً في حياة مجتمعه بفنه وإبداعه.
مسيرته و شخصيته
تعرفت إلى فواز الساجر أول مرة صيف عام 1973. كنت قد سمعت عنه من قبل، وأنه أخرج لمسرح الشعب في حلب مسرحية (حليب الضيوف) من تأليف الكاتب المغربي الطيب العلج. وسمعت أنه كان عرضاً جميلاً وهاماً. واقتصر الأمر على هذا الخبر. وفي يوم من ذات الأيام -كما يبدؤون الحكايات القديمة- طرق بابَ بيتي شاب. كان معتدلَ الطول أشقرَ وسيمَ المحيا وقال: أنا (فواز الساجر). يومئذ كنا نتدرب على مسرحية (مأساة الحلاج) التي سنشارك بها في مهرجان الهواة المسرحي الثالث بدمشق. وسرعان ما غاص معنا الشاب الوسيم في مناقشات عن المسرح كانت تمتد حتى الصباح. وكان فواز يكشف عن نفسه النبيلة في هذه الحوارات التي كانت مادةَ سهراتنا في الأسبوع الذي أقامه في حمص. وكان ذلك بداية لصداقة طويلة عميقة استمرت حتى موته بعد خمسة عشر عاماً. وزاد من عمق هذه الصداقة أنه خطب فاطمة ضميراوي ابنة فرقتنا بعدما تعرَّف عليها في حلب عندما كانت تدرس في كلية الطب. فكأننا كنا (بيت حميه)، وكأنني كنت عمه والدَ التي ستكون زوجته. كان فواز أيامئذ يستعد لتقديم عرضه المسرحي في المسرح الجامعي (نكون أو لا نكون) المؤلَّف من ثلاثة نصوص. واحد لرياض عصمت. وآخر لممدوح عدوان وثالث لأوزوالد دراكون. وسرعان أيضاً ما صرت أحضر تدريباته على العرض المسرحي كلما نـزلت إلى دمشق. وبما أنني كنت أمارس النقد المسرحي إضافة إلى الكتابة والإخراج، فقد تحرك في داخلي شيطان النقد وأنا أراقب تدريباته وطريقته في الإخراج، كما أخذت أتلمس أسلوبه في بناء العرض المسرحي. وكان أسلوباً جديداً في الساحة المسرحية السورية. كان الأسلوب العام في العروض المسرحية السورية هو إقامة التوازن بين أهمية الكلمة وأهمية الفعل بحيث يأتي العرض المسرحي حاملاً للنص المسرحي ومبرزاً لأفكاره وهدفه الأعلى. ولذلك كانت النصوص المسرحية تُنتَقى من روائع المسرح العالمي أو من النصوص العربية القوية في بنائها الدرامي. وكان هذا الأسلوب مجدِّداً لما كان عليه المسرح في النصف الأول من القرن العشرين، كما كان يشكل خطوة هامة في ترسيخ المسرح بتحويله من أدب إلى فن. ففي النصف الأول من القرن العشرين كانت الأهميةُ للكلمة في الدرجة الأولى. وكانت الخطابيةُ في العرض المسرحي طاغيةً على الفعل. ومن هنا نفهم حكاية عبد الوهاب أبو السعود -الذي ملأ خشبات المسارح بعروضه الهامة في دمشق منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ما بعد منتصفه وعلَّم أجيالاً من المسرحيين- مع مدير المدرسة الثانوية الذي طلب منه تقديم عرض مسرحي لمدرسته. فقد قال له عبد الوهاب: (أحضِرْ لي عدداً من الطلاب الذين يجيدون الخطابة وسوف أقدم لك المسرحية). وهذا الأسلوب الذي كان شائعاً في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين كان مناسباً للواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان قائماً في سورية وفي الوطن العربي يومذاك. فبين محاربة المستعمر وبين الدفاع عن تطور المجتمع وتخليصه من كثير من موروثاته البالية، كانت النبرة الخطابية محرِّضةً على الأمرين معاً. والنبرة الخطابية تعتمد في الدرجة الأولى على إبراز الكلمة على المسرح بحيث تهزُّ مشاعر شعب ورِثَ فنَّ الخطابة وعدَّ الخطباءَ سادةَ الكلام. فلما جاءت ستينيات القرن العشرين، كان المجتمع بحاجة إلى نبرة أهدأ كما كان المسرح بحاجة إلى تحويله من حفل خطابي إلى عرض مسرحي. ومن هنا نشأت تلك الموازنة بين أهمية الكلمة وأهمية الفعل. وكان أن قدَّم المسرحُ السوري حتى الثلث الأول من ثمانينيات القرن العشرين تلك العروض الرائعة التي كان المسرح القومي في طليعة من يقدمها. وكان المسرح في مصر يقوم على الأسس نفسها التي قام عليها المسرح السوري ويتطور مثل تطوره. فكأنهما صنوان متلازمان في صناعة المسرح وفي دوره الاجتماعي والسياسي. فمدرسة يوسف وهبي وجورج أبيض وأقرانهما تقوم على مهابة الخطابة في العرض المسرحي، وهو ما سماه زكي طليمات (مدرسة الصوت). ثم ظهرت بعد هذا الجيل مدرسة جديدة تقوم على إقامة التوازن بين الكلمة والفعل تماماً كما حدث في سورية. لكن هذا التوازن بين الكلمة والفعل الذي كان جديداً مجدِّداً في ستينيات ذلك القرن الحافل بالتغييرات العربية والعالمية، صار بحاجة إلى تطوير، لا لأنه صار قديماً، بل لأنه جديد يحتاج إلى تجديد. وكان هذا التجديد يقوم على شيئين: أولهما إعطاءُ الفعل أهمية أكبر بقليل من أهمية الكلمة. وثانيهما دخولُ منهج بريخت الملحمي التغريبي إلى العروض المسرحية. أما زيادة أهمية الفعل فلكي يتحول العرض المسرحي إلى مشهد بصري أكثر جمالية وأكثر إتقاناً لاستخدام تقنيات المسرح التي بدأ المسرح الرسمي يستورد أجهزتَها. وأما منهج بريخت فلأن ثورة تموز/ يوليو في مصر وثورة آذار في سورية قد دفعتا المجتمع المصري والسوري إلى طريق التغيير الاجتماعي والاقتصادي، مما يجعل المسرح يقوم بمهمة التحريض على هذا التغيير. ولم يكن شأن المسرح في العراق يختلف كثيراً عن موقف المسرح في مصر وسورية. كما كان المسرح في تونس والمغرب والجزائر يقترب منهما مع اختلافات كثيرة عنهما بسبب التصاق المسرح المغربي والتونسي والجزائري بتجديدات المسرح الفرنسي. فكان مسرحهما شبيهاً بالمسرح في مصر وسورية والعراق ومختلفاً عنه في هذه الأقطار في الوقت نفسه. وكان إبرازُ أهمية الفعل ممكناً وقادراً على الرسوخ والتمكُّن خاصة بعد عودة عددٍ كبير من المخرجين من الاتحاد السوفييتي ومن دول المنظومة الاشتراكية، وعددٍ قليل من المخرجين من غير المنظومة الاشتراكية. لكن التعامل مع منهج بريخت كان محفوفاً بالمخاطر، لأننا عرفنا هذا المنهج عن طريق القراءة لا عن طريق المشاهدة. والقراءةُ، إن كانت تعني الثقاف فواز الساجر رائد الحداثة في المسرح السوري والتثقف، فهي تعني في الوقت نفسه فهماً متناقضاً لهذا المنهج. وتعني أيضاً شيئاً أخطر وأدهى. فالقارئ يمكن أن يكون سطحيَّ الفهم والتفكير. فيأخذ القشورَ من المنهج ويعدّها أصلاً فيه. ويمكن أن يكون القارئ عميق الفهم فيدرك جوهر المنهج وغاياته الفكرية والفنية فينفذ إلى معاني أساليبه وأدواته. وبين هذين الفهمين درجاتٌ ودرجات من الفهم. وينتج عن ذلك تعددٌ في توصيفات المنهج وتعددٌ في طرق استخدامه. وهو ليس التعددَ المحمود المطلوب في الفن والفكر، بل هو التعدد الضارُّ الآتي من التناقض بين قصور الفهم وبين عمق الإدراك. وهذا الفهم المتعارض لمنهج بريخت وقع فيه المسرحيون والنقاد وكثير من الجمهور. فأدى ذلك إلى اختلاطات كثيرة في المفاهيم المسرحية والنقدية. وكان ذلك وبالاً على هذا المنهج أدى إلى إخراجه من الساحة المسرحية السورية بعد أقل من خمسة عشر عاماً وقبل أن يستنفد أغراضَه ودون أن يترك آثارَه الطيبة كاملةً مع أنه ترك في الضمير العربي الكثير من هذه الآثار.إن زيادة كمية (الفعل) في بناء العرض المسرحي عما كان سائداً بين المخرجين هي المفتاح لأسلوب فواز الساجر، وهي جوهر أسلوبه، وهي التجديد في المسرح السوري يومذاك;وكانت هذه الزيادةُ السمةَ الأولى من أسلوبه.