في ذكرى رحيله .. تنشر كلمة سعد الله ونوس في اليوم العالمي للمسرح: “إننا محكومون بالأمل”
كتب : إسلام أنور – “البداية”
تمر اليوم ذكرى رجيل الكاتب المسرحي السوري الكبير سعد الله ونوس، أحد أهم الكتاب المسرحيين في الوطن العربي، ونوس الذي يعد مؤرخ للهزائم العربية منذ منتصف القرن الماضي، ورغم ما تركت هذه الهزائم من جراح في روحه وجسده لكنه ختم حياته بالكتابة وبالحديث عن الأمل، البداية تعيد نشر كلمته التي ألقها في يوم المسرح العالمي 27 مارس 1996، قبل عام من رحيله، وكان يومها مريضاً بالسرطان.
“لو جرت العادة أن يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي , عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي يلبيها المسرح , ولو على مستوى رمزي , لاخترت لاحتفالنا هذا العنوان ( الجوع إلى الحوار )، حوار متعدد , مركب , وشامل , حوار بين الأفراد , وحوار بين الجماعات , ومن البديهي أن هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية , واحترام التعددية , وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء . وعندما أحس هذا الجوع إلى للحوار , وأدرك إلحاحه وضروراته , فإني أتخيل دائما , أن هذا الحوار يبدأ من المسرح , ثم يتموج متسعا ومتناهيا , حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه , وتنوع ثقافاته.
وأنا أعتقد أن المسرح, ورغم كل الثورات التكنولوجية , سيظل ذلك المكان النموذج الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معا . وميزة المسرح الذي تجعله مكانا لا يضاهى , وهي أن المتفرج يكسر فيه محارته , كي يتأمل الشرط الإنساني في سياق جماعي , ويعلمه غنى الحوار وتعدد مستوياته . فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي , وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج . وهناك حوار ثالث بين المتفرجين أنفسهم … وفي مستوى أبعد , هناك حوار بين الاحتفال المسرحي عرضا وجمهورا , وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال . وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه , ننعتق من كآبة وحدتنا ونزداد إحساسا ووعيا في جماعتنا . ومن هنا , فإن المسرح ليس تجليا من تجليات المجتمع المدني فحسب , بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع , وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره .
ولكن على أي مستوى سأتكلم ؟! هل أحلم ؟! أم هل استثير الحنين إلى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثا يفجر في المدينة الحوار والمتعة ؟ لا يجوز أن نخادع أنفسنا , فالمسرح يتقهقر , وكيفما تطلعت فإني أرى كيف تضيق المدن بمسارحها وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة , بينما تتوالد وتتكاثر في العوز المادي والمعنوي . فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة , والرعاية التي كان يحاط بها تحولت إلى إهمال شبيه بالازدراء , غالبا ما يتستر وراء خطاب تشجيعي ومنافق . وما دمنا لا نريد أن نخدع أنفسنا , علينا الاعتراف بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن أن يكون ذلك الاحتفال المدني الذي يهبنا فسحة التأمل والحوار ووعي انتمائنا الإنساني العميق .
وأزمة المسرح رغم خصوصيتها هي جزء من أزمة تشمل الثقافة بعامة ولا أظن أننا نحتاج إلى البرهنة على أزمة الثقافة , وما تعانيه هي الأخرى من حصار وتهميش شبه ممنهجيين .
وإنها لمقارنة غريبة أن يتم ذلك كله في الوقت الذي توفرت فيه ثروات هائلة من المعارف والمعلومات , وإمكانية التسويق والاتصال ! ثروات حولت العالم إلى قرية واحدة , وجعلت العولمة واقعا يتبلور , ويتأكد يوما بعد يوم . ومع هذه التحولات وتراكم تلك الثروات , كان يأمل المرء أن تتحقق تلك اليوتيبيا التي طالما حلم بها الإنسان , يوتيبا أن يحيا في عالم متضافر … تتقاسم شعوبه خيرات الأرض دون غبن , وتزدهر فيه إنسانية الإنسان دون حيف أو عدوان .
ولكن .. يا للخيبة فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتيبيا التي بشر بها الفلاسفة , وغذت رؤى الإنسان عبر القرون . فهي تزيد العفن في توزيع الثروات , وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى والشعوب الفقيرة الجائعة . كما أنها تدمر ودون رحمة كل أشكال التلاحم داخل الجماعات , وتمزقها إلى أفراد تضنيهم الكآبة والوحدة , ولأنه لا يوجد أي تصور عن المستقبل , ولأن البشر ولأول مرة في التاريخ , لم يعودوا يجرؤون على الحلم , فإن الشرط الإنساني في نهاية هذا القرن يبدو قاتما ومحبطا.
وقد نفهم بشكل أفضل تهميش الثقافة , حين ندرك أنه في الوقت , الذي غدت فيه شروط الثروة معقدة وصعبة , فإن الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة الأنانية الخالية من أي بعد إنساني . فالثقافة هي التي يمكن أن تبلور المواقف النقدية التي تعري ما حدث , وتكشف آلياته , وهي التي يمكن أن تعين الإنسان على استعادة إنسانيته , وأن تقترح له الأفكار والمثل التي تجعله أكثر حرية ووعيا وجماليا .
وفي هذا الإطار فإن للمسرح دورا حيويا جوهريا في إنجاز هذه المهام النقدية والإبداعية التي تتصدى لها الثقافة . فالمسرح هو الذي سيدربنا على المشاركة والأمثولة على رأب الصدع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة , وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعا , وأنا أؤمن أن بدء الحوار الجاد الشامل هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحيط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن.
إننا محكومون بالأمل , وما يحث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ . منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان . وكانت الكتابة للمسرح بالذات أهم وسائل مقاومتي خلال هذه السنوات الأربع , كتبت وبصورة محمومة أعمالا مسرحية عديدة .وكن ذات يوم سُئلت وبما يشبه اللوم : ولم الإصرار على كتابة المسرحيات , في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح , ويكاد يختفي من حياتنا ؟! باغتني السؤال , وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني بل وأغضبني . طبعا كان من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المدية التي تربطني بالمسرح , وأن أوضح له التخلي عن الكتابة المسرحية , وأنا على تخوم العمر , هو جحود وخيانة لا تحتماها روحي , وقد يعجلان برحيلي , وكان علي لو أردت الإجابة أن أضيف : إني مصر على الكتابة للمسرح لأني أريد أن أدافع عنه , وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حيا .
وأخشى أن أكرر نفسي لو استدركت هنا وقلت : إن المسرح هو في الواقع أكثر من فن , إنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحا وفقرا لو أضاعها وافتقر إليها !!
ومهما بدا الحصار شديدا والواقع محبطا فإني متيقن أن تضافر الجهود والإرادات الطيبة وعلى مستوى العالم سيحمي الثقافة ويعيد للمسرح ألقه ومكانته !!
إننا محكومون بالأمل . وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ !!.