كريم بوشطاطة.. أن تثلج في الصّحراء
يقول المثل الشّعبي الجزائري: “الصّابر ينال”، وتقول روح الفن: “متى خيّبتُ من وثق بي؟”، ويقول المصوّر الجزائري كريم بوشطاطة، 1985، إنه جرّب المسرح والشريط الوثائقي، لكنه اكتشف ذاته، يوم قرّر أن يُبرمج نفسه على التّصوير، انطلاقًا من إشارات كثيرة منها “الشّرارة السّحرية التي تصيب روحي، كلّما لمست آلة التصوير. مثلي حين ألمسها كمثل المصباح حين يوصل بالكهرباء: ينير، لذلك أسميتها الملهمة”.
shareعدسة كريم بوشطاطة ميّالة إلى التفاصيل الصغيرة للأمكنة والموجودات، فهي تلتقط اللحظة قبل زوالها
بعضهم يعتبره محترفًا وبعضهم هاويًا، “غير أنّ ما يهمّني هو شغفي الخاصّ بهذا الفن الذي غيّر مفهوم التاريخ والتّأريخ عند اكتشافه. إن الفارق الذي صنعه هذا الاكتشاف لا يختلف عن الفارق الذي صنعه اكتشاف الكتابة والملح والنّار والعجلة، فإذا كانت الكتابة تعطي للعالم معنًى جديدًا، فإنّ التصوير يجعل العالم يحافظ على معناه”.
اقرأ/ي أيضًا: ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها
من هنا، يفهم بوشطاطة التصوير “معركة الحياة ضدّ الموت، وهي معركة أزلية لطالما باتت لصالح الحياة/ الخلود، منذ باتت آلات التصوير في متناول يد الإنسان، يخلّد بها اللحظات والوجوه والملامح والمشاهد والأماكن، فتبقى في الصّورة بعد أن تزول في الواقع، وهو ما يجعل هذا الزّوال افتراضيًا”. يشرح: “في السّابق، كانت ملامح الرّاحلين تسكن ذاكرات الأحياء، فإذا ماتوا ماتت معهم، أما اليوم، فقد جعلتها آلة التصوير تسكن الصّور، فلا تتأثّر برحيل من يرحل”.
فتح كريم بوشطاطة عينيه في مدينة عين الصّفراء، قرب الحدود الغربية للجزائر، بكلّ ما تمثله من عناق بين الصّحراء والجبل، والأرض والسماء، وصيف حارّ وشتاء بارد، وإرث فني شعبي وآخر أوروبي، فقد كانت مقصدًا للعديد من الكتّاب والفنانين الغربيين، خلال الفترة الفرنسية، في مقدمتهم الكاتبة والرّحالة إيزابيل إبرهارت المدفونة فيها عام 1904، “فأغنى ذلك وعيي الفني مبكرًا، وجعل إحساسي قويًّا بمسؤولية الاحتفاء بعناصره المكانية والإنسانية عبر الصّورة”.
روح الاحتفاء هذه، جعلت عدسة بوشطاطة ميّالة إلى التفاصيل الصّغيرة للأمكنة والموجودات، فهي تلتقط اللحظة قبل زوالها، وقفة عصفور نادر فوق غصن، قطرة ماء تهمّ بأن تلتحق بأمّها الأرض، ثمرة متمسكة بأمّها الشجرة، حيوان طائر أو جاثم. “أحبّ أن أعبّر عن الكلّ بالجزء، وأتفادى الاستعراض السّياحي للصّورة، حتى لا تفقد عقيدتها الفنية، رغم أهمية أن نخدم السّياحة بالصّورة، لذلك تجدني أحدّد مسبقًا الهدف ممّا ألتقطه”.
يعيش كريم تحت الضّوء هذه الأيام، “فقد جاءتني الشّهرة دفعة واحدة”، والسّبب نخبة من الصّور التي التقط فيها الصّحراء وهي تلتقي الثلج، في مشهد يقول كبار السن إنهم لم يروه منذ عام 1979. “نشرت 30 صورة على صفحتي، فتلقيت اتصالًا من صحيفة بولونية في البداية، ثم توالت الاتصالات من مواقع وقنوات وهيئات مختلفة، وقد نشرت صورة الصّحراء المثلجة في أكثر من مئة منبر في العالم”.
shareيعيش كريم بوشطاطة تحت الضوء مؤخرًا بسبب صور التقطها فيها الصحراء وهي تلتقي الثلج في مشهد يقول كبار السن إنهم لم يروه منذ عام 1979
كان المشهد استثنائيًا، فقد تعوّد الناس على أن يروا الصّحراء والثلج مفصولين في سياقيهما الطبيعيين، أمّا هذا العناق الذي فاجأهم به بوشطاطة، فقد كان ضربًا من ضروب السّحر. “استعصى علي التصوير في الليل، بالنظر إلى استحالة التنقل بالسّيارة، لكنّني انتقلت إلى المكان بدراجتي، ما أن تنفّس الفجر، وشرعت في التصوير مأخوذًا بجمال المشهد، حتى أن آلتي تحولت إلى لعبة في يدي. لقد أصبحت طفلًا في فضاء شكّله بياض الثلج وصفرة الرّمال”.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا سيبقى من أعراس قسنطينة؟
باتت الصّورة عروس مواقع التواصل الاجتماعي، وتبنتها أكثر من جهة رسمية في شكل هديّة قدّمتها لضيوفها من الشخصيات المرموقة، “غير أنّ أكثر ما همّني في الأمر، تلك الرّسائل التي وصلتني من المغتربين الجزائريين في الخارج، والذين عبّروا لي فيها عن كون الصّورة ربطتهم من جديد بمسقط الرّأس، ومنحتهم شعورًا بالفخر، لأنها جعلت العالم يبدي إعجابه بالمكان الجزائري”.
في السّياق، يقول الكاتب والمترجم بوداود عميّر: “إنّ ما فعله كريم بوشطاطة بآلة تصويره، لصالح جماليات المكان الجزائري، في ظرف أسبوع واحد، إذ بات محطّ اهتمام وكالات السّياحة العالمية، أكبر ممّا فعلته وزارتا السّياحة والثقافة، بكلّ ما تملكانه من أموال وعمّال. لقد كشف أن المكان الجزائري بقي يتيمًا سياحيًا”.