في الوقت الذي تحوَّل فيه كل شخص يَمتَلك هاتفاً ذكياً إلى مُصوّر، يَتَساءل مهرجان الفنون البصرية “إيماجز” Images المُقام في مدينة فوفي (كانتون فو) عن مستقبل فن التصوير في العصر الرقمي.
“نحن متواجدون دائماً في عدسة أحد الأشخاص”، كما يقول ستيفانو ستول، مدير مهرجان الفنون البصرية، الذي يلاحظ بأن الهروب من عملية التصوير بات أمرا صعبا. ويُضفي المهرجان الذي تستضيفه مدينة فوفي Vevey في الهواء الطلق كل عامين منذ عام 2007، حُلّة مختلفة على المدينة الواقعة على الضفة الشمالية لبحيرة ليمان. ويستمر المهرجان الذي افتُتِح يوم 13 سبتمبر الجاري، حتى 5 أكتوبر القادم.
“لقد أصبح التصوير موجوداً في كل مكان من حياتنا. الناس مهووسون بإلتقاط الصور لأي شيء، وبأسلوب يُعَبِّر عن تهنئة الذات في الكثير من الأحيان”. لكن ستول لا يهتَم بالصور بصفتها وثائق تعبِّر عن الواقع. وهو يبقى غيْر عابِئ بشكل مهذّب بالإعجاب النرجسي بالصور الذاتية، التي لا تقول لِمَن يشاهدها في الواقع، سوى “لقد كُنتُ هناك”.
عِوضاً عن ذلك، يرصد مهرجان الفنون البصريةرابط خارجي أماكن التِقاط المصوّرين لصورهم الفوتوغرافية، ولكن مع تحوير مُضاف هنا؛ حيث تتحوّل بلدة فوفي إلى مختبر لتقديم الصور الفوتوغرافية في سياق حضري. وتُظهر نظرة إلى المدينة تَحَوُّل المباني إلى لوحات إعلانية ضخمة والأنفاق إلى قصص مصورة، في حين تسمح الحدائق بازدهار المَشاهد المعروضة كالأزهار. أما أسطح المباني، فقد تحوّلت الآن وللمرة الأولى إلى شواطئ.
“السؤال الذي نطرحه على أنفسنا هو: ما الذي يُمَثله فن التصوير اليوم؟ وماذا سيكون عليه غداً؟”، كما يوضح ستول.
صور ترْوي حكايات
يُؤمن ستول إيماناً عميقاً بقابلية السَّرد التي تتّصف به الصور وقدرتها على رواية القِصص، وهو ما يُعزّزه مهرجان Images من خلال وضعها في مُحيط يُثير الدهشة. وعلى سبيل المثال، نجد صورة “الرجل مع الخطوط العمودية”، التي إلتقطها الفنان الأمريكي المعروف جون بالديسّاري، الذي يُعتَبَر عرّاب الفن المفاهيمي المُعاصر، المُتدلية على إمتداد الطوابق الأربعة التي تشكّل جدران مبنى السِّجن السابق في فوفي، وهي علاقة ترسم ابتسامة على مُحيّا بالديسّاري.
وبدورها، تعرض جمعيات أخرى صوراً أكثر إستفزازاً، لكن الصور المُلتَقَطة سِرّاً، تُشاهَد في السِر أيضاً. وتنتشر صُور المُتَشَمسين المُطمئنين الغافلين (في مجموعة الصور المُعنونة “منطقة الراحة” comfort zone)، التي إلتقطها المصور اللاتفي تاداو سيرن بواسطة كاميرا جاثمة على عمود فوق ظهره، كالمناشف على أسطح بلدة فوفي، بعيداً عن أعيُن الجمهور. ويستطيع المشاهدون رُؤية صور المُتشمّسين من مستوى سطح الأرض، من خلال كاميرات طائرة بدون طيار.
“هذا العرض هو الأول من نوعه في العالم”، كما يدّعي ستول، حول إستخدام طائرات مدنية بدون طيار في فعالية كهذه. كما يقول، مُعترفاً باضطرار المهرجان إلى تكييف المشروع في اللحظة الأخيرة بسبب التغييرات التشريعية التي تمّت في سويسرا مؤخراً: “تمثل الطائرات بدون طيار، الهجوم النهائي على الخصوصية”.
ويلامس المشروع الكبير الآخر “مشاهدتك وأنت تنظر إلي”، حدود الخصوصية أيضاً، حيث يُمكن مشاهدة صور لَحظية عالية الجوْدة لمواطنين لا يُدركون أن هناك مَن يُصورهم.
فمِن وراء مِرآة ذات اتجاهيْن، يلتقط المصور السويدي موا كارلبيرغ اللّمحة العابرة لوجوه المارّة، حينما يتعرّفون على أنفسهم في مِرآة بشكل نافذة – لا أحد منهم يبتسِم. وخلال الليل، تُسلَّط إضاءة خلفية على الصُور المهيبة في حجمها والمعروضة في رِواق للتسوّق، مما يزيد من طيشها غيْر المألوف.
ومن الواضح أن المهرجان يَعبَث في مناطق خطِرة، كما يعترف ستول، لأننا “ننتهك خصوصية هؤلاء الأشخاص”. لكنه مُقتنع مع ذلك بأن الخصوصية هي قضية مُعاصِرة هامة يمكنها الإستفادة من عرضها، “في جوٍّ من المَرح وبطريقة غير مُتَوَقَعة”.
وبوصفها إحدى علامات العَصر، كان الإنترنت حاضراً في الحدث أيضاً بعدد من المشاريع التي نُقِلَت مباشرة من صور موجودة على الشبكة العنكبوتية. إحدى هذه المشاريع عرضها قيّم الصور والمدير الفني الهولندي المعروف إريك كيسّيلس، الذي قام بطباعة 350,000 صورة عشوائية تمّ تحميلها على موقع فليكر (لمشاركة الصور وأفلام الفيديو) في يوم واحد، ونثرها في أكوام في جميع أنحاء كنيسة سانت كلير في فوفي، مُتيحاً للزوار فُرصة التِقاطها، والحصول على تعليق حولها، ومن ثمَّ الإحتفاظ بها.
نهاية الخصوصية
كان الاعتداء على الخصوصية موضوع مقالة نُشِرت مؤخراً في مجلة أخبار الفن ARTnews رابط خارجيالأمريكية بعنوان “متى يتعدّى فن المراقبة حدوده”. وتطرّقت الكاتبة باربارا بولاك إلى أمثلة في الولايات المتحدة، حيث قضت المحكمة في صالح مجموعة من المصوِّرين الذين إلتقطوا صوراً لأشخاص في بيئاتهم الحميمية، على أساس عدم إمكانية التعرّف عليهم وعدم إستخدام الصور في الاعتمادات التجارية، أي لأغراض الإعلان.
وبِمُجرد نشر الصور على شبكة الإنترنت، أكدت كلّ من شركة غوغل وتطبيق تبادل الصور إنستاغرام وموقع مشاركة الصور والفيديو فليكر وموقع التدوين المُصغّر تويتر وغيرها من شركات الإنترنت، حقّها في امتلاك هذه المواد. وتشير بولاك إلى أن جيل الشباب يَعتَبر فقدان الخصوصية، الثمن الذي ينبغي دفعه مقابِل إتصالهم بشبكة رقمية.
وفي مقابلة أُجريت لغرض إعداد هذه المقالة، هزَّ شاب في السادسة والعشرين من العمر كتفيه مُعلَّقاً بأن الخصوصية هي مفهوم يعود للماضي. وهو مُقتنع بأن الشخص ما لم يَكنْ من المشاهير أو أن لأحدٍ ما سبب في النظر إلينا، فإن تفاصيل حياتنا تذوب في بحر من المعلومات. وكما قال مُتاملاً، تحوّلت شخصيات مثل تلك الموجودة في صورة “قبلة من أمام فندق دي فيل”، التي إلتقطها المصور الفرنسي روبرت دوانو، والتي طُبِعَت منها آلاف البطاقات البريدية والملصقات، أو صورة “سقوط الجندي” لمصور الحرب المجري روبرت كابا، أو صورة الفتاة الأفغانية ذات العيون الخضراء على غلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك، إلى رموز بين عشية وضُحاها قبل ظهور الإنترنت، لكنهم بقوا مجهولي الهوية. ولكن، ومع وجود الإنترنت اليوم، لن يكون لديهم موضع للاختباء.
“إننا نمنح هذه الصور وجوداً فعلياً تتجاوز شبكة الإنترنت”، كما يوضح ستول. “نحن لا نقوم بدور الصحفيين. الصور تصبح مرايا المجتمع، وإنعكاسات ينبغي التأمل فيها”.
وسائل الإعلام الإجتماعية الإفتراضية
تمثل الصور وسيلة تُمكِّن المجتمع من رواية قصتة الخاصة، وهو ما فعلته المجتمعات منذ فجر الإنسانية، كما يقول جياني هافَر، مؤرّخ وسائل الإعلام وعالم الإجتماع البصري.وبنفس الكيفية، لا يمثل البورتريه الذاتي ظاهرة جديدة، كما أن ظاهرة الصور الذاتية ليست سوى نزْعة بشرية أساسية، تضخَّمت من خلال الإنترنت. وكما يقول: “النية نفسها، الأدوات فقط هي التي تغيّرت”.
وتعكِس النرجسية رغبتنا في أن نكون موجودين بأكثر من نسخة واحدة، مثل صورة تتأمّل نفسها في المِرآة. ومن الناحية الأخرى، وبسبب “إتاحة وسائل الإعلام الإجتماعية لعلاقات إجتماعية دون اتصال جسدي”، فإننا نميل إلى إعادة بناء هوياتنا بنفس الطريقة التي نختار بها ملابس مختلفة صباح كل يوم. وكما يقول هافر:”نحن نرسم باستخدام العُنصورة ( البِكسل)”.
بقاء التصوير في يومنا الحالي
إذن، هل يمتلك التصوير الفوتوغرافي المهني القُدرة على مُنافسة هذا الطوفان من هُـواة التصوير على الإنترنت؟ هذا السؤال توجّهت به swissinfo.ch إلى ليونور فيا، عميدة قسم التصوير الفوتوغرافي في مركز التدريس المهني في فوفي CEPV، إحدى المَدرستيْن الرئيسيتيْن للتصوير في سويسرا. وبرأي فيا، لا يمكن المقارنة بين الإثنين، إذ يتعلّم الطلاّب الدارسين للتصوير الفوتوغرافي، طريقة التعبير أكثر بكثير مما تستطيع لقطة من الواقع أن تنقله.
ولتوضيح الثروة من التأويلات الشخصية التي يمكن أن يلهمها حتى موضوع عالمي مثل العلاقة بين الإنسان والحيوان، تمّ توجيه الدّعوة إلى 56 فناناً لهم علاقة بالمدرسة، للمشاركة في معرض خاص يُقام أثناء مهرجان الفنون البصرية Images، يحمل العنوان الغريب “جحافل وأسراب”.
وتبقى فيا متفائِلة بشأن التصوير الفوتوغرافي لسببين؛ ففي حين أنها لا ترفض وسائل التعبير عن الذات التي توفّرها شبكة الإنترنت، إلّا أنها تشير إلى حاجة هذه الصور إلى التهذيب أو الإدخال في سياق مُعيّن. وهو ما يستطيع المصوّرون المدرّبون توفيره. “لا وجود لمعلومات بدون وجهة نظر”، كما أشارت، مُضيفة أن تعدّد وجهات النظر، تؤدّي إلى خلق سيمفونية بصرية.
ويعود السبب الثاني لتفاؤل عميدة قسم التصوير الفوتوغرافي في مركز التدريس المهني في فوفي، إلى إكتشافها لشهية الناس المتزايدة للوجود المادي للصور الفوتوغرافية، وهو ما يفسِّر، وفقاً لها، النجاح الكبير لمَعارض ومهرجانات التصوير الفوتوغرافي المُقامة اليوم. وكما تقول:”نحن نتطلّع الى الإرتباط البشري”.
مهرجان الفنون البصرية في فوفي
تستضيف مدينة فوفي (في كانتون فو) الواقعة على ضفاف بحيرة ليمان (بحيرة جنيف) كل عامين مهرجان الفنون البصرية Images المجاني الذي يقام في الهواء الطلق.
تستمر دورة هذا العام، التي تتمحور حول موضوع المرايا والإنعكاس والتظاهر، حتى يوم 5 أكتوبر القادم. وهي تضم 68 مشروعاً لفنانين ينتمون إلى 18 دولة، فضلاً عن معارض يقيمها الفائزون الخمسة بجائزة فوفي الدولية للتصوير (من أصل 800 عرض مُقدَّمة).
في هذا العام، يتعاون مسرح “فيدي” Vidy في لوزان مع المهرجان، من خلال مشروع قوي حول بيروت.
يتم تدوير الصور الضخمة المطبوعة على القماش المشمع المعلقة على المباني خلال إحدى الدورات، إلى حقائب تُحمل على الكتف ومَحافِظ يتم بيعها خلال الدورة التالية.