اخترت يوم الهول..
سعد القاسم
من الأرشيف 26-2- 2013
يوم الخميس الماضي حين كانت جراح دمشق تنزف أبناء لها باغتهم الحدث المهول، أغمض الفنان مروان مسلماني عينيه البارعتين للمرة الأخيرة، بهدوء يشبه رجلاً كان مزيجاً نادراً منه، ومن الحيوية والدأب، فأوصل إبداعات الأجداد لأجيال الأحفاد لتكون شاهداً أمامهم،وأمام العالم، على عظمة الحضارات التي أقامها السوري منذ ألاف السنيين.. وليصح في وصف رحيله ما قاله أحمد شوقي في رحيل المنفلوطي الذي زامن يوم إطلاق النار على الزعيم الوطني المصري سعد زغلول:
اخترتَ يومَ الهولِ يومَ وداعِ…. ونعاكَ في عَصْفِ الرياحِ الناعي
هتف النُّعاة ُ ضُحى ً، فأَوْصَدَ دونهم…. جُرحُ الرئيسِ منافذَ الأَسماعِ
منْ ماتَ في فزعِ القيامة ِ لم يجدْ…. قدماً تشيِّع أو حفاوة ساعي
وبرحيل مروان مسلماني المولود في دمشق عام 1935 يفقد العمل الأثري السوري علماً من رواده كان له الفضل الكبير في توثيق المكتشفات الأثرية السورية والتعريف بها على نطاق واسع. فقد رافق الكثير من البعثات الأثرية التي عملت في مختلف أنحاء سورية،ووثق بألة تصوير وراءها عين مدربة وبارعة وخبيرة عمل تلك البعثات ومكتشفاتها على امتداد سبع وثلاثين سنة منذ بداية عمله في مديرية الآثار عام 1958وحتى مغادرته المديرية العامة للآثار والمتاحف عام 1995 كمدير لقسم التصوير والأرشيف الأثري فيها، وعلى امتداد تلك العقود الأربعة أنجز ألاف الصور الضوئية بالغة الإتقان التي تظهر ببراعة ملمس المادة وماهيتها،وقد وجدت هذه الصور بفضل ذلك طريقها إلى عدد كبير من الكتب التي بحثت في الحضارات السورية القديمة، وأثارها،وإلى المعارض التي أقيمت في أنحاء مختلفة من العالم، وحتى إلى الملصقات وتقاويم وزارة السياحة ومؤسسة الطيران السورية،إضافة إلى معارض الراحل الشخصية، ومؤلفاته القيمّة ومنها: (سورية أرض الإنسانية)، (تدمر- فن وعمارة) (بصرى – المدينة الكاملة)، (دمشق – وثائق وصور)، (دمشق – عهود وفنون)، (البيوت الدمشقية)، (الجامع الأموي)، (سورية – كنائس وأديرة في صور)، (دمشق – المدينة القديمة في صور) وكل هذه الكتب صدرت بسبع لغات عالمية.وقد لقي عمله تقديراً واسعاً حيث تم تكريمه مرات عدة،وتوج ذلك بمنحه وسام الاستحقاق السوري عام 1982..
أما معارضه فقد تجاوز عددها الأربعين معرضاَ أثرياً متخصصاً كان آخرها معرض (الأختام الاسطوانية في سورية) الذي افتتحته السيدة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية منتصف الشهر العاشر عام 2009 في مكتبة الأسد.وضم مئة لوحة ضوئية لأختام أسطوانية (وطبعاتها) تعود للفترة بين 3300 و 330 قبل الميلاد.وهو استعادة للمعرض الذي أقامه الراحل قبل ثلاثين سنة (ولمدة خمس سنوات) في جامعة (توبنغن) الألمانية قبل أن يجول عدة دول أوربية، وليكون أساساً لدراسة الحضارات السورية، والتاريخ السوري القديم..إضافة لأهميته البالغة في تسليط الضوء على واحدة من المنجزات الفنية الأثرية السورية الفريدة، بجانبيها الجمالي والعملي..
آمن الراحل بأن التصوير الضوئي فن وليس حرفة،وقد عبر عن رأيه هذا من خلال لقاءات وندوات، وقبل كل شيء من خلال عمله الإبداعي..ومن ثم في مساهمته الهامة في تأسيس نادي التصوير الضوئي عام 1979ومشاركته في العام التالي بمعرض (الخمسة الضوئي) الذي ضمه إلى جانب د.قتيبة الشهابي، جورج عشي، د.صباح قباني، وطارق الشريف.وقد عمل خلال ترؤسه لإدارة النادي لثلاث دورات متتالية على توسيع نشاطه، وتكريس فن التصوير الضوئي كواحد من أنواع الفنون التشكيلية..
رحل مروان مسلماني،ولكن سيبقى منه في ذاكرة معارفه صورة الرجل الودود اللطيف الأنيق الروح المخلص لعمله..وسيبقى منه في ذاكرة الإنسانية ألاف الصور المتقنة للآثار السورية..تقدم الدليل على صحة رأي صاحبها بأن التصوير الضوئي فن قبل أي شيء..