في وداع الإنسان والفنان المعلم نذير نبعة. .
تكريمٌ أكثر ديمومة من كلمات العزاء
لبنى شاكر
في شباط الأخير نعى اتحاد الفنانين التشكيليين الراحل نذير نبعة، دونما سابق حديث أو إشارة إلى فترة طويلة عانى المرض فيها، وغاب نوعاً ما عن حضور المعارض والنشاطات الفنية، رغم أنه ظل يرسم حتى اللحظة الأخيرة، ربما كان ما أبداه من تماسك وإصرار على متابعة عمله، سبباً أبعد فكرة الموت عن محبيه، حتى جاء الخبر مفاجئاً ومؤلماً.
طويلاً حلم الراحل بلوحة «تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، بحيث تتجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض»، لذا تنوعت أعماله بين التصوير والرسم الصحفي ورسوم الأطفال، حتى كان ما أراده نتيجة حتمية لتجربة ثرية يصعب تكرارها، جعلت منه فناناً معلماً، وهو ما اختارته مديرية الفنون الجميلة واتحاد التشكيليين عنواناً لاحتفالية تكريمه مؤخراً.
استحضر أصدقاء نبعة ومحبُّوه في مكتبة الأسد، عبر فيلم أعده الناقد سعد القاسم وأخرجته وصال عبود، مشواراً طويلاً بدأه تلميذاً أمام الكبير الراحل ناظم الجعفري، ثم كانت دراسته للفنون الجميلة في القاهرة وتدريسه مادة الرسم إلى أن كان معرضه الفردي الأول في صالة الفن الحديث بدمشق عام 1965، وما تلا ذلك من خطوات فنية، وثقت لنفسها في المشهد التشكيلي السوري.
لكن ما أخرج التكريم عن خطه المعروف من «كلمات رثاء، معرض مرافق»، جاء عبر كتاب خاص بالمناسبة، أصدرته وزارة الثقافة، وأعده الناقد القاسم والتشكيلي طلال معلا، ضمّناه نصوصاً لنقاد وفنانين كتبوا عن المراحل المتعددة لتجربة نبعة، منها ما كتبه الروائي عبد الرحمن منيف الذي تابع تجربة الفنان الراحل عن قرب، والفنان التشكيلي المعلم إلياس زيات حيث رافق نبعة في عمله الإبداعي والتعليمي زمناً طويلاً، وطالب من طلاب الفنان في كلية الفنون الجميلة، قدم أثناء دراسته نصاً عن إحدى لوحات نبعة الشهيرة «دمشق».
إضافة إلى عدد من النصوص التي كتبها الراحل، منها مقالة عن معارض «بيكاسو» التي افتتحت بمناسبة الذكرى التسعين لولادته، كتبها عام 1971 أثناء دراسته في باريس ضمن سلسلة مقالات أرسلها إلى مجلة «الطليعة»، أيضاً نص نشره في دليل معرضه «التجليات» عام 2003، أما النص الثالث فهو كلمته التي قرأها في حفل تقليده وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2005.
يبتعد الكتاب عن الآراء العامة ليقترب من خصوصية التجربة، وهو ما يجعله شكلاً مختلفاً وأكثر ديمومة للتكريم، لكونه يتيح التعرف إلى نبعة الإنسان والفنان المعلم، ويبحث في فرادة لوحاته وتنوع تجلياتها، إذ لم تحل ضرورة إنجازه سريعاً ليكون جاهزاً في حفل تكريم ذكرى الراحل، من دون أن يأتي لائقاً بالمناسبة وصاحبها، ومنصفاً «على حد قولهما» لسيرة حياته وإبداعه.
يصعب الحديث في مادة صحفية سريعة عن نذير نبعة، لكن ربما كان ما أنجزه عن القضية الفلسطينية، حالة يجب التوقف عندها، فالراحل قدم بعض أشهر الرسومات عن النضال الفلسطيني، منها شعار «حركة فتح» وفق ما جاء في بيان نعي أصدرته الحركة إثر رحيله، حتى إنه أنجز كثيراً من الرسوم المرافقة لنصوص شعراء الأرض المحتلة «محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم»، كما صمّم ماكيت العدد الأول من مجلة «فلسطين الثورة»، التي كانت تصدر من دمشق، وهذا ما أشاع فكرة أنه فلسطيني، وعن ذلك قال، وفق ما أكده الكتاب أيضاً: «كثيرون كانوا يظنون أني فلسطيني، لكون رسوماتي كانت بمنزلة الناطق الرسمي بلسان الحراك الفلسطيني، فهزيمة حزيران كانت صفعة على وجوهنا جميعاً، جعلتنا في حالة إحباط، لكن شخصية الفدائي هي من أنقذتنا، فكنا نشعر أن هذه الشخصية، هي الوحيدة التي يمكن لها أن تدافع عن وجودنا وعن مفهوم الوطن، لذلك احتلت صورة الفدائي الجزء الكبير من لوحاتي في تلك الفترة، وكان معظمها على هيئة بوستر أو ملصقات حيث نشأت صداقات وإخوة بيني وبين الفدائيين».
كذلك لا بد من الإشارة إلى تحول كبير مرت به تجربة الفنان عام 1975، حيث كان بداية لمرحلة هي الأطول زمنياً والأغزر إنتاجاً، مرحلة «الدمشقيات» التي استمرت 16 سنة، وكرست هوية أعمال الفنان لجهات الموضوع والأسلوب والتقنيات، فمن جهة صارت المرأة الدمشقية بثيابها وإكسسواراتها التقليدية، الموضوع الأساس للوحاته، ومن جهة ثانية نفذت لوحات هذه المرحلة بأسلوب واقعي، محلي في مناخه اللوني ومفرداته التشكيلية مع غياب أي فراغ في اللوحة.
كانت هذه المرحلة برأي القاسم على وفرة حضورها الزمني والفني، وقدرتها على الإمتاع والإدهاش غريبة إلى حد ما عن المسار الذي اتخذته تجربة نبعة حتى ذلك الحين، والذي كان يتجه نحو مفاهيم الحداثة، وهنا أستحضر رأياً للناقد صلاح الدين محمد، أكد فيه أنه «لا يصح قراءة هذه المرحلة بعين ناقد أوروبي لأنه سينظر إليها على أنها من مرحلة تاريخية سابقة، لكن بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة لكانت هناك فجوة في سلّم ارتقاء الفن السوري ومعطياته».
في مختلف ما قدمه الراحل، كان يدعو متلقيه لحوار مختلف، يبدو حياً في كل لوحة رسمها: «أدعوك لترسم في لوحتي لوحتك، أدعوك لترسم في فرحي غضبك، أدعوك لترسم في منظري وجهك، لأن هناك نافذة أخرى للرؤية».
ت: طارق الحسنية
صحيفة تشرين 15-12- 2016