القصائد صور نراها قبل الاستماع إليها
القصيدة صورة فوتوغرافية قبل أن تكون خطابا لغويا
- الشعر خطاب بصري منذ نشأته، جلي في كتابة الشعر سواء في أسطر متفاوتة أو في بنية البيت الشعري العمودي العربي، وعلاوة على اشتباك الشعر مع الصورة شكلا فإنه يتماهى معها موضعا، حيث الصور الشعرية هي عماد الشعر؛ تنقل وتصور واقعا وعوالم مختلفة للمتلقي. من هنا تطورت علاقة الشعر بالصورة أكثر، ليصبح متاحا المزج بينهما بأشكال مختلفة، رغم أنه في جانب آخر نجد أن لكل منهما خصوصيات رسخها على مرّ تاريخه.
العرب
الرباط – يجمع كتاب “أيام جديدة” للشاعر والفنان الفرنسي المقيم في المغرب، بول كاستيلا، بين الشعر وفن الفوتوغرافيا، ويحتوي على 60 صورة ترافقها قصائد هايكو.
ويضم هذا الكتاب، نظرتين للعالم متشابكتين: أولاهما؛ ينفتح الشعر من خلالهما على فن التصوير، حيث يدعونا الفنان، من خلال تمازج لغتين فنيتين، كي نكتشف لغة تعبيرية جديدة، أطلق عليها اسم بويطوغرافيا ، يتماهى فيها الخطاب البصري مع الخطاب اللغوي، فتتشكل صور قصائد.
يندمج البعدان ويتوحدان داخل فضاء واحد، وثانيتهما؛ أن البويطوغرافيا عمل فني مركب، تتداخل فيه الأبعاد وتمتزج الأجناس، فتنتج بعدا تعبيريا جديدا، حيث تسهم القصيدة إلى جانب الصورة في إنتاج المعنى، ويعدّ كل واحد منهما امتدادا للآخر، كما يستمدان من بعضهما المادة والجوهر، ثم ينصهران داخل كتلة واحدة، فيتكاملان مثل وجهي العملة الواحدة.
تقدم هذه الأعمال منظورا فنيا خاصا، حيث تتلاشى الحدود بين الصورة الفوتوغرافية والومضة الشعرية. فيدرك القارئ المعنى الكلي للعمل من خلال فعل المشاهدة وكذلك القراءة. لا تقوم الدلالة الكلية للعمل بالوقوف على عنصر دون آخر. وتدخل البويطوغرافيا، انطلاقا من هذا الجانب، في باب الفن المفاهيمي، الذي يعتمد تقنية الكولاج، إذ تصف القصيدة المشهد بعفوية، بعيدا عن كل زخرف لغوي.
يقول عبدالغفار سويريجي في مقدمة الكتاب، والواقع في 112 صفحة “يخضع النص الشعري هنا للخصائص الفنية المتعارف عليها في شعر الهايكو، نقصد تحديدا طابع الكثافة والبساطة. تتشكل القصيدة من بيت شعري واحد، موزع على ثلاثة أسطر. يكتمل مدلول الصورة إذن داخل القصيدة. يكشف الشعر أسرار الصورة. تتميز هذه النصوص بكثافتها الدلالية وإيحاءاتها المتداخلة. تكشف الصورة بدورها جوانب منسية من الحياة. يطوع الفنان هنا مجموعة من الوسائل والتقنيات حتى يصل إلى الصيغة المبتغاة، ويعبر عن رؤيته للعالم. منح ذلكم التمازج الحيوي للعمل إمكانات عدة لكشف ما تستره الأشياء”.
لحظة الوجدان المكثف
يتضمن الكتاب، الصادر عن دار نشر كراس المتوحد، حوارا مطولا أيضا مع الفنان بول كاستيلا أنجزته دار نشر كراس المتوحد عنوانه “طريقة للعيش قلما تحمل هم الغد والآتي”، وهو من ترجمة المبارك الغروسي. حول سؤال اختيار البويطوغرافيا باعتبارها وسيلة تعبير، وهو جنس لم يدرج بعد في التصنيفات الأكاديمية؛ ما هي البويطوغرافيا؟ يجيب الفنان “القصائد القصيرة تشترك مع التصوير الفوتوغرافي في كونها تبرز خلال لحظة نوعا من الوجدان المكثف.
جعلت لبضع سنوات صوري مرفقة بنصوص قصيرة. ثم فكرت لاحقا في دمج النص نفسه مع الصورة بفضل الوسائل الرقمية. البويطوغرافيا، هي في البدء صورة فوتوغرافية، أضم إليها قصيدة قصيرة ترتبط من جانب المعنى بالصورة ومن جانب الخط والرسم بالألوان المهيمنة. يمكن القول بشكل من الأشكال أن النص هو الصدى المتردد في الكلمات للانفعال الوجداني في اللقطة المصورة”.
كتاب يفتح الشعر على فن التصوير
وعن علاقة الشعر بفن التصوير يقول الفنان “يعكس الشعر العلاقة بين اللغة والواقع. هذا هو ما يسميه اللساني رومان جاكبسون الوظيفة الشعرية للغة. لا تحيل الكلمات والأصوات ضمن قصيدة إلى العالم الحقيقي بغية نقل خبر إلى المستمع أو القارئ، بل إنها تسرب إلى داخله عواطف وانفعالات توجه نظرته وإدراكه نحو عالم متخيل. بالنسبة إلي الأمر نفسه ينطبق على التصوير الفوتوغرافي، فأنا لا أستخدمه لنقل صور واقعية، بل لإنتاج لوحات شعرية انطلاقا من حالات حدس. صوري هي بشكل من الأشكال إشراقات، في المعنى الذي يذهب إليه الشاعر آرثر رامبو. أما النص المرافق فينسج الرابط بين الصورة واللغة”.
وعن سبب اختيار عنوان “أيام جديدة ” يشير كاستيلا إلى أنه يأتي في الواقع بعد أضمومة صور مصحوبة بنصوص، كانت على شكل يشبه مذكرات، وكان قد وسمها بـ”مجرى الأيام”، يقول “قادتني أحداث حياتي بالإضافة إلى اقتنائي لأدوات جديدة إلى إنتاج هذه البويطوغرافيات. يلعب فيها الضوء دورا أساسيا، بما أنه هو ما يدفعني في غالب الأحيان لالتقاط صورة ببلد مثل المغرب. ولكن الضوء يدخل في حوار مع الظل. فالزمن الذي يجري يتبع طريقا تمتلئ بالأشواك والجثث. ويتداخل الفرح والحزن”.
الرحالة الوحيد
عن تصنيف النقاد له بكونه مصورا رحالة يقول كاستيلا “اخترت أن أسافر وحدي، أولا لتجنب الخلاف حول الوجهة التي يجب اتباعها، وأيضا لأن السفر في مجموعات، مهما قل عددها، يقوم أكثر على تجوال أسر في فضاء أكثر من الذوبان فيه لاكتشاف أسراره. أنا أحب أن أحس بالحاجة إلى لقاء الناس. وفي الأساس يمكنني أن أصنف الدول اعتبارا من درجة السهولة والصعوبة التي منحت لي في التعرف إلى الناس. كانت رحلاتي في غالب الأحيان ممتعة نسبيا، لأن إمكانيات إيجاد وسائل النقل بأسعار منخفضة كانت متاحة لي، وأيضا لارتباطها بالمهام ذات الصلة بالأنشطة الأكاديمية التي كنت أقوم بها. الصور التي التقطتها خلالها تشهد على دهشتي، سواء أمام مناظر مدهشة بالنسبة إلي، كما السهوب المنغولية والصحراء المغربية ووديان جبال الهيمالايا العالية، أو أمام سلوكيات الناس وخاصة في المدن”.
وعن علاقة البويطوغرافيا بالموسيقى يقول “أنا عصامي في عزف الجاز. ويمكن القول بنفس القدر إنني أرتجل على شاكلة أطباق طائرة غريبة في الموسيقى. بشكل عام، هذا النشاط هو بالنسبة إلي للترويح عن النفس وتسليتها، أعزف لنفسي فقط. ولكن العواطف والانفعالات التي يثيرها في نفسي الإيقاع والألحان تماثل تلك التي تنتابني وأنا أزاوج بين الصور والقصائد”.
يشار إلى أن بول كاستيلا، فنان وشاعر فرنسي يقيم في المغرب منذ ما يزيد على العقدين، ولد عام 1948. كتب العديد من الدراسات في مجال علم النفس والهجرة والتفاعل الثقافي، نشر بعضها ضمن مؤلف صدر له في فرنسا بعنوان “الاختلاف زيادة”’. وصدرت له هذه السنة رواية بعنوان “صعاليك أشرار”.