الدكتور”صباح قباني”.. فسيفساء لوحة ثقافية دمشقية موسوعية معطاءه لعشاق الضوء ..
جده مؤسس المسرح .. أبو خليل القباني ..و أخيه الشاعر “نزار قباني”
– بقلم : فريد ظفور
صباح قباني سليل أسرة دمشقية وسورية كانت حياتها بين الفن و إبداع الحروف والكلمات وبين الكتب والسياسة ،
ونثرت شذى هذا الابداع فواهاً لتحفظه الأجيال . وقد ترك له بصمات واضحة في إذاعة دمشق فهو أول من ابتكر موجز الأخبار الذي يقدم لمدة 3 دقائق .. أول مدير للتلفزيون السوري في 23 تموز عام 1960م .. وساهم في اكتشاف مواهب الكثيرين من الفنانين منهم “دريد لحام”.وله الفضل بتوجيه بوصلته للدراما ..
حيث كان دريد يعمل أستاذاً للكيمياء المخبرية في مدارس وثانويات دمشق وجامعتها ..و’حيث ابتكر الثنائي مع رفيق دربه (( نهاد قلعي )) بشخصية (( حسني البورظان )) وهو بشخصية «غوار الطوشة» ثم انضم إليهما لاحقاً فنان الشعب (( رفيق سبيعي )).. وبذلك جعل الدراما تدخل كل بيت في سوريا لا بل وفي الوطن العربي عبرعدة مسلسلات درامية منها مقالب ((غوار- وحمام الهنا – وصح النوم وغيرها)) ..و كذلك ساهم في تأسيس فرقة فنون شعبية تعمل في التلفزيون..
وعن مسيرة حياته الفنية يقول : «ولد “صباح قباني” عام 1928، وتلقى علومه الأولى في الكلية العلمية الوطنية، وبعد أن التحق بجامعة “دمشق” حيث نال شهادة الحقوق عام 1949؛ تلقى قباني عرض عمل من مدير الإذاعة آنذاك، سليم الزركلي، أن يعمل مذيعًا في الإذاعة .. ثم يغادر إلى “فرنسا” ويحصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق الدولية من جامعة السوربون في “باريس”ثم عاد لسورية عام 1952م.. حيث شغل عدة مناصب؛ ففي مجال الإعلام، عيّن مديراً لبرامج الإذاعة والتلفزيون عام 1953، ومديراً للتلفزيون في “سورية” بين عامي 1959-1961، وكان أول من ابتكر موجز الأخبار في إذاعة “دمشق” لمدة ثلاث دقائق كل ساعة، كما أوجد التقاسيم التي تسبق الأذان أو تلاوة القرآن الكريم، وابتكر العديد من البرامج التلفزيونية مثل “الأسرة السعيدة”؛ للتوعية الصحية، ويتابع: «من هواياته رسم الكاريكاتوري إلى جانب التصوير؛ حيث أقام عدة معارض لصوره الفوتوغرافية، منها: “نشيد الأرض”، “لحظات أندونوسية”، “المعرض الاستعاري”، وذكر صباح قباني في أحد كتبه عن معرض للصور الفوتوغرافية أقامه في دمشق وطلب من نزار أن يكتب تعليقات على تلك الصور فلاقى المعرض إقبالاً جماهيرياً كبيرا كونه جمع بين فن المصور صباح قباني وإبداع الشاعر نزار قباني كما ذكر عن صباح أن إحدى الصور وقع عنها التعليق فتساءل الحضور عن التعليق وكأنهم كانوا يشاهدون معرضاً لإبداع نزار .
وذات يوم سُئل عن سبب اهتمامه بالتصوير، فأجاب: (هل للمرء أن يوقف الزمن؟ بالطبع لا لأنَّه يتحرك باستمرار، لكن آلة التصوير توقف الزمن، وتحنِّط اللحظة، فالصورة هي اللحظة الفالتة من عقالات الزمان، وهي لا تشبه سابقتها ولا ما يلحقها)، وقد تم تكريمه عام 2004م.. في حفل افتتاح المعرض الخامس والعشرين لنادي فن التصوير الضوئي في “سورية”، وله بصماته بتأسيس مديرية الفنون في وزارة الثقافة عام 1958». وبعد عمله في التلفزيون انتقل إلى العمل في وزارة الخارجية وعين سفيراً للجمهورية العربية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية من عام 1974 لغاية 1980 واستقال قباني عام 1983 من العمل الحكومي، ليعمل مستشارًا لعدد من المؤسسات الثقافية. وتفرغ للعمل الثقافي والمعرفي، حيث ترجم كتابي ابنته رنا ((“رسالة إلى الغرب”، و”أساطير أوربا عن الشرق لفرق تسد”)) وكذلك صدر له كتاب (( من أوراق العمر )).. وهو سيرة حياة في الإعلام والفن والدبلوماسية ..
صباح قباني ..قامة دمشقية تألقت في العديد من المحافل الإعلامية والدبلوماسية والأدبية وحافظت على التواضع والرُقي، كتب سيراً ذاتية بكل أمانة وثقة ودقة، وأظهر إزدواجية إبداعه الفني من خلال عدسته وقلمه. الكاتب “إسماعيل مروة” قال عنه: «”صباح قباني” شخص مجبول بالأرض والوطن والفن والحب، لذلك لم يترك مكاناً لم يوقع عليه بحبه، فهو الكاتب المبدع الذي يكتب كما يريد لا كما يريد الآخرون منه.. وسجل اسمه بحروف من ذهب في كل مجال دخل فيه، فهو الدبلوماسي المحنك الذي مثل “سورية” في أكثر من بلد، والإعلامي المتميز الناجح، والمصور الفوتوغرافي الفنان، تتوج كل نشاطات الراحل شخصية إنسانية متواضعة ومحبة وراقية، كان رجل كلمة وموقف ومبادئ يحترم الجميع، فاحترمه كل من عرفه أو سمع عنه ..
من يقرأ سيرته الذاتية فلا بد سيذهل بتواضع رجل أبدع في كل شيء من السياسة إلى الأدب والفن والفنون الشعبية، ولكنه يُغيب نفسه دوماً لحساب الأمانة العلمية، فهو قيمة بذاته .. قال عنه الباحث “محمد مروان مراد”: «واحد من كوكبة المبدعين من أبناء الوطن، يملك مجموعة مواهب متألقة من الصعب حصرها في إطار واحد، فهو الإعلامي البارع، والفنان الرقيق، والدبلوماسي الأنيق (( وجهاً وكلمةً وجهداً)) وهذا ليس غريباً، ففي ابن حي “مئذنة الشحم” أبهى أحياء المدينة القديمة، وفي فردوس دمشقي باذخ بالنور والخضرة والعبير عاشت أسرة “آل القباني” جيلاً بعد جيل، الجدُّ مؤسس المسرح الغنائي في “مصر والشام”، “أبو خليل القباني” والأبُّ “توفيق القباني” الصناعي المتنور والوطني النصير والداعم للمجاهدين الثوار المقاومين للمحتل، والأخ الأكبر “نزار” شاعر “دمشق” وبلبلها الصداح .. نشأ “صباح” في عالم الأسطورية ليرتشف الكلمة العذبة والنغمة الصافية والموسيقا الدافئة من كل من حوله، متشرباً الحب السامي والتهذيب البديع و الرفيع والوطنية العالية و الصادقة ». وعن الجانب الأدبي في حياته يقول “مراد”: «ترك العمل الوظيفي عام 1981 ولكنه بقي مرتبطاً بكتاباته وإنتاجه الأدبي، ومن أهم كتاباته: سيرته الذاتية في كتابه “من أوراق العمر”، عرض فيه للحياة الغنية التي عاشها سواء في طفولته أو شبابه، أو في الأعمال التي أداها في مختلف مراكز المسؤولية بشغف وأمانة، فكشف عن جوانب شخصيته المتنوعة في الفكر والفن والسياسة، وألف في هذا المجال كتابه “كلام عبر الأيام” عرض فيه سيرة أخيه الراحل “نزار قباني” الذي كان صديقه الأقرب، كما كتب السيرة الذاتية للدكتور “رضا سعيد” مؤسس الجامعة السورية، إضافة إلى ترجمته كتابي “أساطير أوروبا عن الشرق”، و”رسالة إلى الغرب” اللذين ألفتهما ابنته “رنا قباني”». أما في السلك الدبلوماسي فقد عين قنصلاً في السفارة السورية في “نيويورك” لمدة أربع سنوات، ثم مديراً للإعلام في وزارة الخارجية عام 1966، فوزيراً مفوضاً في “جاكرتا” بـ”أندونوسيا”، فمديراً لإدارة أميركا بوزارة الخارجية عام 1971، وأخيراً سفيراً لـ”سورية” في “واشنطن” حتى 1980، وقد جمع في شخصه صلابة الشرقي ودبلوماسية الغربي».
وعن أهم ما ميز شخصيته يختتم: «جمع عدة شخصيات متألقة، فكان في كل المهمات التي أسندت إليه مثالاً للمثقف الواعي، متعدد المواهب، متوقد الحماس، دمثاً في تعامله، شفافاً في فنه وأدبه». رحل الدكتور “صباح قباني” بتاريخ 31 كانون الأول 2014، تاركاً يصمته الإنسانيه واسمه لامعاً يبرز في شتى مكونات المجتمع السوري.