غياب سلوى روضة شقير رائدة التجريد الهندسي
لم تكد تمر بضعة أشهر على إتمام الفنانة اللبنانية الكبيرة سلوى روضة شقير عامها المئة حتى وافتها المنية. مئة عام عاصرت هذه المبدعة خلالها تحولات قرن والثورات الفنية والتشكيلية التي شهدها وتابعت بدأب وشغف تجليات الحداثة الغربية مرتكزة الى معطيات الفن الإسلامي وجمالياته. ونجحت في ان توائم بين انتمائها العربي والشرقي وثقافتها الغربية الواسعة لتؤسس مدرستها الفريدة.
شُبهّت بنيزك آتٍ من فضاء بعيد، سلوى روضة شقير (1916-2017 )، رائدة التجريد الهندسي في لبنان والعالم العربي. بعد مرور أكثر من نصف قرن على تجاربها التي بقيت بين الظل والنور، بين التكريم والتبجيل أو التجاهل، تقتحم اليوم مشهدية المعاصرة، بأعمالها التي أخذت تتبوأ مكانتها البارزة في أهم متاحف العالم (تيت مودرن في لندن، ومتحف شيكاغو للفنون)، جنباً إلى جنب مع كبار معلمي الحداثة في الغرب.
فنانة استثنائية بفكرها المتوقد وعلامة فارقة بين المحدثين العرب، بعطاءاتها وكفاحها وابتكاراتها. دمجت بين النحت والعمارة وعناصر الطبيعة وأشياء من أساسيات الحياة اليومية وكمالياتها. في أعمالها منظومة ذات تنوع كبير من الوحدات الشكلية والأساليب المتشكلة بمختلف الخامات وعلى مختلف الحوامل (نوافذ زجاجية، أطباق من خزف ملون، سجاديات، مجوهرات، تصاميم نوافير ماء، مقاعد…).
أعطت للعمل النحتي، وظائف جمالية جديدة وهي أول من أثار الانتباه إلى أهمية المنطلقات الفلسفية السائدة في الفنون التجريدية الإسلامية، وبنت على ركائزها أسلوبها الفني الذي جاوز تأثيرات المدرسة البنائية Constructivisme نحو صوغ شكلاني ينفذ إلى أعماق البنى الشعرية.
استطيقا وروحانية
حدثان غيرا مجرى حياتها. الأول: حين قضت سبعة أشهر في القاهرة عام 1943، وكانت المتاحف مغلقة بسبب الحرب العالمية الثانية، فزارت الجوامع والمدارس والأبنية القديمة وتأثرت بما رأته من آثار الفنون الإسلامية. لذا تكونت لديها قناعة بأن هذا النوع من الفن ينطوي على فكر ونظام وروحانية نابعة من فلسفة جمالية خاصة.
أما الحدث الثاني والأهم في حياة سلوى روضة شقير جاء حين قصدت باريس في عام 1948 لدراسة الفن، وهناك وجدت أن الدعوة إلى منطلقات الحداثة التي تعم الغرب ما هي إلا التجريد الكامن في الفنون الإسلامية، في الفترة نفسها التي كان يحرز فيها التشييد والتجريد الهندسي تقدماً كبيراً في معارض باريس مطلع الخمسينات، بمواجهة التجريد الغنائي والبقعية Tachisme واستيحاء الطبيعة. عام 1950 عملت سلوى في محترف جان ديوان Dewasne وإدغار بيليه Pillet، كمساعدة إدارية مسؤولة عن إعداد مقابلات مع فنانين وتحضير المحاضرات واللقاءات الثقافية. هذا المنصب أتاح لسلوى أن تكتسب القواعد التنظيرية للتجريد الهندسي الفرنسي، كرسامة في بادئ الأمر، ولم تكن قد ربطت بعد، بين تلك القواعد وبين الفكر التجريدي في الفلسفة الإسلامية إلا حدسياً في ذلك الحين، قبل أن تتحول تلك الحدسية الى ثقافة واسعة ومعرفة علمية لاحقاً بعد عودتها إلى بيروت (عام 1954).
بلا شك حققت سلوى صعودها سريعاً منذ ان أقامت معرضها التجريدي الأول في باريس في «غاليري كوليت اللندي» (عام 1951) ومن ثم في صالون الحقائق الجديدة، وهناك تعرفت على أبرز فناني التجريد الهندسي في المدرسة الباريسية (مورنستون، جاكبسون، فازاريللي، بولياكوف، صونيا دولوني…). ثمة اختلاف أدركته سلوى في مفهوم الروحانية والبحث عن المطلق في تجريد كل من كاندنســكي ومــوندريان وماليفيتش، التي جاءت كتعبير عن الأفكار التي لا يمكن تمثيلها بشيء، ما يعنى انعدام الشيء أو «اللاشيء». أما فكرة المطلق في المفهوم الإسلامي فهي المثل الأعلى أو الجوهر الإلهي. فقد اجتهد الفنان المسلم في تجسيد الرؤية التجريدية للكون، عبر تحويل كل شيء في عمله الفني الى مساحات لفضاءات زخرفية (هندسية ونباتية) وضمن منهج توحيدي محدد يجمع ما بين المساحة المتحركة (الجسم المملوء) والمساحة الفارغة (الجسم الفراغي)، بغية بلورة جمالية تجريدية جديدة مستمدة من الفلسفة الفيثاغورية، وذلك من خلال إيجاد روابط عميقة ما بين تجانس حركة الكون ومفاهيم الرياضيات، وعلاقة الجزء بالكل.
منذ أوائل الخمسينات كانت الفنانة مأخوذة بكيفية استعمال الفنان العربي للدائرة والخط المستقيم لوصف شيء لا يمكن وصفه ولا حتى بالظن، وهذا ما جعلها تركّز على مبدأ الوحدة، وهو قدرة الخط على إتباع مسار يسمح له بتحويل نفسه إلى أشكال لا متناهية العدد، ثم عمدت إلى تقسيم هذه الوحدة إلى أجزاء قابلة للتوافق والتعارض والتكرار.
القصائد التي تُرى
عُرفت سلوى منذ أوائل الستينات بمنحوتاتها المركبة من قطع عدة يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها الى ما لانهاية، وفق اجتهادات أطلقت عليها تسميه «حل من الحلول»، هكذا نقلت الشعر العربي من حالته الشفوية- السمعية إلى حالته البصرية من خلال استعارات قوامها حركة الشكل الهندسي ونموه التصاعدي- الارتقائي في الفضاء، الشبيه بالقصيدة العمودية، حيث البيت هو مجرد وحدة قابلة للتكرار، وفق التناغم الناجم عن التموضع غير المتسق للأبيات. كما انها انطلقت من فلسفة التربيع واستخرجت المربع غالباً من المستطيل في تركيب عمودي بسيط يتغير كل مرة على هوى الشكل والعدد.
في أوائل الثمانينات بدأت سلوى بتفكيك القصائد العمودية إلى ثنائيات مفتوحة على حدث الوجود. كل ثنائية مثل بيت شعري من شطر وعجز وتفعيلة لها نظم إيقاعي خاص. في المرحلة الأخيرة من نتاجها اختفت الثنائية وبرزت التفعيلة البصرية الراقصة ككيان مستقل بذاته، بعد تجزئة البيت الى شطر وهي تحاول ان تنسج عليه تلافيف خيوط الذاكرة كنغمة كونية خارجة عن إيقاع الزمن.