اختار الكاتب محسن الموسوي عنواناً متعدد الدلالات لروايته الجديدة «سلاف بغداد» (المركز الثقافي العربي 2017) جامعاً بين ما تحمل كلمة «سلاف» من مترادفات وأبعاد تاريخية مرتبطة بالحانة نفسها التي عرفت اوج ازدهارها في الخمسينات العراقية وكانت ملتقى الأدباء و»الغرائب» كما يعبر راويه الثاني، وبين الأحوال المتقلبة تاريخاً وواقعاً التي شهدتها بغداد مدينة المآسي المتعاقبة. وبينما تبدو حانة «سلاف» هي البطلة الرئيسة في المعنى الافتراضي تبرز قبالتها بغداد نفسها بطلة اخرى، ومنهما تنطلق الشخصيات التي تحفل بها الرواية. وعبر هذه الازداوجية يتضح عزوف الموسوي عن تسمية روايته «حانة سلاف» مثلاً، فالرواية هي روايات في آن واحد: رواية بغداد ورواية حانة «سلاف» بروادها ووقائعها، وهي ايضاً رواية الساردة الأولى التي تدعى سميرة محمد توفيق مدرّسة مادة الجغرافيا في احدى ثانويات البنات، ورواية الكاتب حمدي السماك صاحب المخطوط الذي يحمل عنوان «دفتر سلاف» والذي تقع عليه سميرة وفيه يروي السماك احوال الحانة وبغداد وقصصاً هي بين الواقع والمتخيل.
ولئن استهل الموسوي روايته عبر صوت سميرة الراوية الأولى، فإنما ليمهد السبيل الى الراوي الثاني صاحب المخطوط الذي يدعى حمدي السماك، وهو شاعر وروائي معروف وأحد رواد «سلاف» ولا يظهر اسمه الا في الختام بعدما ظل مجهولاً في البداية ومحلّ شك وحيرة. لكنّ المخطوط يُرفق لاحقاً برسالة كتبها ايضاً حمدي وأرسلها صديقه بهنام الى نجم صاحب «محل الجقمقجي للتسجيلات» الذي يقع مقابل حانة «سلاف».
هذه الرسالة تبدو ملحقاً للمخطوط الرهيب الذي شاء الموسوي ان يحافظ على طابعه بوصفه مخطوطاً مضطرباً نظراً الى ما يضم من قصص وأخبار شبه غرائبية طالعة من عمق التسعينات العراقية، الواقعة تحت الحصار والاحتلال. أما نجم الذي تلجأ اليه سميرة بغية تصليح جهازها( الكومبيوتر) المتعطل، فهو الذي يفتح لها خزانة ابيه التي كان يودع فيها المخطوطات التي يسلمه اياها الروائيون والشعراء لتنجو من الضياع او الحريق. ويجد نجم في سميرة ضالته ليقدم لها بعضاً من تلك المحفوظات وبينها «دفتر سلاف» الذي لا يحمل اسم مؤلفه.
البوصلة
وكما يتصور الراوي في المخطوط خارطة بغداد التي اضحت في حقبة التسعينات «تيهاً بتيه» يسعى الموسوي الى رسم هذه الخارطة دامجاً بين البعد الجغرافي والبعد الثقافي، الواقعي والتخييلي، المأسوي والغرائبي. انها بغداد حقاً ولكن انطلاقاً من بوصلة «سلاف» الحانة التي اضحت منطلق السرد ومآله. فـ «الحانة» هي الحيز الذي تتجلى فيه صور المدينة والأحلام المكسورة والخيبات… مدينة الشعراء والروائيين والمضطهدين والمهزومين او كما يقول حمدي في المخطوط، مدينة «جيل الإيديولوجيات والمفاهيم الكبرى» الذي اضحى في «مهب الريح»، الجيل الذي ما صارت «بقاياه سيف دون كيشوت المكسور» بعدما افرغته «الدكتاتورية وحكاية الحزب الواحد من الإرادة طوعاً او كرهاً».
لا تخلو رواية الموسوي من الحنين الى بغداد على رغم الرثاء الذي تضمره او تجاهر به لها. الحنين الى بغداد «سلاف» وإلى اماكن بغداد نفسها التي محا الحصار والاحتلال «علاماتها». ومن يعرف بغداد جيداً يدرك سر استعادة الكاتب لشوارعها وساحاتها ومقاهيها ومكتباتها ولأناسها الحقيقيين الذين اضحوا اطيافاً او غادروا: شارع الرشيد، ساحة الرصافي، مكتبة اوروزدي باك، سويس كافيه، شارع الخيام، شارع ابو نواس، شارع السعدون، مطعم كبة اربيل… وفي المقدم دوماً حانة «سلاف» التي كانت مربض خيل الشعراء والروائيين على اختلاف مراتبهم وأعمارهم وأمزجتهم : كاظم جواد، حسين مردان، رشدي العامل، بلند الحيدري، وسائر الصعاليك ومنهم عبدالرحمن طهمازي وصلاح فائق… اضافة الى حمدي السماك صاحب المخطوط او الكاتب «المرعوب من نفسه، من الأميركيين، من صدام، من الجميع…».
يغلب طابع الرثاء في الرواية على رغم الحنين الذي تفيض به. بغداد بل عراق التسعينات لا يليق بهما سوى الرثاء وربما الندب والبكاء. انها الحقبة الأشد قسوة وبؤساً، تجمع بين انهيار نظام دكتاتوري ونهوض سلطة اخرى هي الاحتلال الأميركي الذي جعل البلاد في حال من الاضطراب التام. يقول الرواي: «اصبحت بغداد كشكولاً، خردة وأكواماً من كل شيء». خطف وقتل وفقر مدقع ، قنابل وقذائف، برد وجوع، رعب وكوابيس وجثث، شوارع تغص بالمجانين والمشردين واللصوص، جنود وجماعات مسلحة، بيوت تخلو من اثاثها والدينار الى المزيد من السقوط… وتقول سميرة: « ثقافة الاحتلال جاءتنا بربطة للرأس وعباءة تلف الجسد». اما الراوي فيشبّه انتهاك «الفئران والجراد» لبغداد بالانتهاك المروع الذي وصفه ألبير كامو في روايته «الطاعون». وليس مستهجناً ان يعود الى كتب التاريخ ومنها مثلاً «كتاب الحوادث» المنسوب لابن الفوطي ليقرأ على ضوء مآسي الماضي مأساة بغداد الراهنة.
ومما جاء في متن الكتاب: «ووضع السيف في اهل بغداد وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب… فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال فلم يبق من اهل البلد الا القليل وأحرق معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد…».
أجواء «الليالي»
معروف ان محسن الموسوي الناقد الأكاديمي هو واحد من اهم المشتغلين على كتاب «ألف ليلة وليلة» وله في في هذا الحقل اكثر من بحث بالعربية والإنكليزية وأحدثها دراسته الأكاديمية الضخمة «الذاكرة الشعبية لمجتمعات «ألف ليلة وليلة» (المركز الثقافي العربي). لكن الموسوي هو روائي ايضاً و «سلاف بغداد» هي روايته الخامسة، وقد عرف كيف يوفق بين التجربتين، تجربة الناقد الأكاديمي الرصين الغائص في مفاهيم السرد وتقنياته، وتجربة الروائي او المبدع.
ولعله في «سلاف بغداد» يبدو شديد الاستفادة من اجواء «الف ليلة وليلة» او مناخاتها ولكن بعيداً عن الاقتباس او التأثر المباشر لا سيما من الناحية التقنية او الأسلوبية. فمدينة بغداد التي يرويها الموسوي لا تبدو غريبة عن الطابع العجائبي لبغداد «الف ليلة وليلة» على رغم تاريخية الوقائع في «سلاف بغداد» ومأسويتها.
وكم بدا حضور شخصية حنون الذي يوصف بـ «المخبول والمجنون الذي يجوب بغداد ليلاً ونهاراً» جذاباً وكأنه من شخصيات «الليالي» لطرافته المشبعة هنا بالبعد الفجائعي، فهو عاش تفاصيل المذبحة التي قضى فيها اهله وأصيب بما يشبه العته.حنون هذا هو الذي سيفتح امام الراوي ابواباً شبه سرية تشبه ابواب «الليالي» وتقود الى سراديب تؤدي الى عالم غير متوقع وإن بدا واقعياً ظاهراً. حنون هو الذي يقود الراوي الى ملجأ العالم يوحنا السرياني الذي كان ايضاً من رواد «سلاف»: يدخله من باب خفي في بناية خلفية متآكلة ثم يفتح باباً آخر يفضي الى قاعة ثم دهليز وسرداب وهناك يجد يوحنا الذي ارسل يطلبه لينبئه بأن «سلاف» سيتعرض لانفجار كبير اولاً، ثم ليعرّفه الى ابنته كوليت التي تدمن قراءة كتبه وتميل اليه، وليتيح امامهما فرصة اللقاء الذي تحتاج اليه ابنته لتخرج من ازمتها النفسية التي تواجهها بعد مشاهدتها جثة تفترسها الكلاب في الشارع وقد تحولت في دخليتها الى كابوس. في هذا الملجأ الذي أوى اليه يوحنا خوفاً من الاغتيالات التي يتعرض لها العلماء في العراق حينذاك، تقوم حياة بكاملها ويحتل احدى القاعات منظار يرصد يوحنا وكوليت عبره حركة الكواكب والفلك. يقع الراوي في حب كوليت ويتبادلان القبلات ويتعانقان ثم تنتهي بهما العلاقة الغريبة الى الزواج. والزواج يتم على يد الشيخ عيسى الذي يوافق على بقاء كوليت على دينها. ومثلما أدخل حنون الراوي في باب المخبأ السري يدخله ايضاً الى مخبأ آخر عبر باب مطعم «كبة أربيل» في جولة يقومان بها في ليل بغداد. وهنا يدخلان رواقاً طويلاً فارغاً ويجدان نفسيهما امام باب سري ينفتح امامهما ويفضي إلى باب آخر يفضي الى قاعة تحتلها مائدة غريبة ومن سقفها تتدلى اجساد…
انها فعلاً اجواء غرائبية ولكن غير ممعنة في التغريب لأنها تظل على محاذاة الواقع. ولا يمكن هنا اغفال الرحلة الغريبة التي يقوم بها حنون والراوي الى مدينة بعشيقة التي يقطنها بهنام شقيق يوحنا، ممتطيين حمارين نتيجة إصرار حنون واعتقاده ان الحمير لا تُفخخ ولا تُفجر. لكن الحمير تُستبدل ببغال في المرتفعات الصخرية. وهناك ايضاً يوجد سرداب وكهف مرصود… ثم تنتهي الرحلة الى دير مار إليّا حيث يكتشف الراوي قصائد لأبي نواس خطها على الجدار كاهن كان يحب شعر النواسي. والشعر اصلاً لم يغب البتة عن الرواية ككل وغدا امتداداً لجوها وشخصياتها وليس فقط مجرد تزيين لوقائعها كما يحصل عادة في كتب الرواة. ومن الشعراء الذين تحضر قصائد لهم او مقطعات: يعقوب بن صابر، العباس بن الأحنف، أبو بكر الجراحي، ابو نواس، بدر شاكر السياب الذي يردد الراوي عنوان قصيدته الريادية «هل كان حباً؟»… ناهيك بقصيدة لويس اراغون «عينا إلسا»…
رواية «سلاف بغداد» هي رواية بغداد التسعينات وبغداد الماضي وربما المستقبل الذي اضحى مجهولاً. والعبرة هي في كيفية كتابة هذا المستقبل الذي تنسحب عليه ملامح التسعينات المأسوية. ولعل السؤال الذي يطرحه الراوي او حمدي السماك حول العي الذي يعانيه في الكتابة هو سؤال جوهري سيظل يطرح وهو:»ألسنا جميعاً نعاني العي؟». ويضيف: ثمة عطب ما يطاول النفوس…».