ترسم الشاعرة هدى النعماني حضورها بالكلمات. تحاول تثبيت صورة كبيرة لحياتها، في المكان المفتوح وفي الزمان الواسع. لذلك فهي ما زالت تكتب الشعر والقصيدة، وتسعى إلى بناء الهرم الكبير الذي رأته في منامها الأول. قصيدتها الغامضة يفوح منها عبق وشجن. وكلما توغلت في الكلام، تراءت لها ولمن يراها ويراقبها صورة الوعي الهادئ الجميل. فمنذ قصيدتها الأولى قالت وحاولت أن تقول. قالت وترجمت ما رأته بأحاسيسها وأفكارها الكثيرة… فهل قالت كل ما تريد؟
بعد تجربة شعرية غنية ومثمرة تمثلت بعشرات الكتب والأعمال الفنية التشكيلية، تقف الشاعرة عند حدود الوعي الأزرق، كما تسميه، وتنظر إلى ماضيها وحاضرها ومستقبلها بنظرات هادئة جداً، وتبوح بما يجيش في صدرها ووعيها الآني، بفيض من الأحاسيس، فتكشف لـ «لها» بعضاً من أسرار الحياة والكتابة والذكريات…
– بعد تجربتك الشعرية الطويلة، وبعد هذا الكم الهائل من الفوران في اللغة والكتابة والفن المرسوم، كيف تعرّفين نفسك؟ من هي هدى النعماني اليوم، وهل تغير التعريف وتبدل بعد هذا العمر المفتوح على وعي الحياة والإنسان؟
ربما أجد صعوبة في تحديد الجواب النهائي لسؤالك. تغير التعريف؟ نعم تغير وتبدل وانقلب وتراجع وتقدم، وربما استمر على حاله، لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني «كنت نقطة… كنت دائرة». أما اليوم فمن أنا؟ أطرح على نفسي السؤال ذاته، وأقول: لو كنت أعرف من أنا بالضبط لعرفت نفسي وارتحت.
– هل هذا يعني أن الشاعر لا يمكنه رؤية نفسه إلا من خلال القصيدة التي يكتبها، وبالتالي يخضع أمر تعريف القصيدة إلى تعريف الشاعر؟
الشاعر كما الشعر. الشاعر كالقصيدة، لا يمكن حصره في إطار محدد ونهائي. لو سألت ألف شاعر عن تعريفهم للشعر، سيأتيك ألف جواب، وكل جواب يختلف عن الآخر. ربما تتناقض الأجوبة. لكن هذا هو الشعر. هذه هي القصيدة.
– إذاً ، كيف تعرّفين الشعر، ولماذا تكتبين؟
تحدثت عن الشعر بإسهاب، وقلت الكثير في تعريف الشعر. وكلما سُئلت عن الشعر أجد جوابي في غير معنى، لا استقرار نهائياً في تعريفه. الشعر بالنسبة إليّ اليوم هو مرآتي التي أقف أمامها بكامل حضوري، وأحدّق فيها، فأرى ما أريد وما لا أريد.
أما لماذا أكتب، فلأنني أرى نفسي والعالم في حروف الكتابة، ولا أستطيع النظر الا بعين الكلمة واللغة. الكتابة هي نشاط متوقد يشدّني إلى الحياة ويعرفني على عالم الغيب والغياب، كما يربطني بعالم الحضور. والأهم هو أنه حين تكتمل القصيدة في كياني تعطيني حافزاً لبناء مشروع الأمل في حياتي. أنا أكتب لأقول لنفسي وللعالم إن الحياة جميلة، وخالقها أجمل.
– هل تتوقعين أو تتخيلين أنك توقفتِ عن الكتابة؟
التوقف عن الكتابة يعني النهاية… الموت.
– كأنك تعيشين في نبض القصيدة ومضمونها وإيقاعها المتنوع؟
صحيح، مئة في المئة. القصيدة بالنسبة إليّ هي القلب ونبض القلب، وهي الروح حتماً.
– هل هدى النعماني شاعرة أتت من الفرح إلى القصيدة، أم جئتِ من وعي آخر وذاكرة مختلفة عن سائر البشر؟
الوعي الأزرق هو منطلقي إلى كل فعل وحركة ونشاط في أيامي. الوعي الأزرق هو السماء الصافية التي أرى فيها ملاذي الأخير. وكل ما أفعله على الأرض هو نشاط فرحي وانتظاري للحظة الوصول إلى الأزرق العالي.
– كيف تنظرين إلى مكانة الشاعرة في واقعنا العربي، هل تربعت على عرش الشعر كما الشاعر، أم أنها ما زالت في غير مستقر شعري؟
لا شك في أن الشاعرة في عالمنا العربي، وحتى على مستوى العالم، هي سيدة الحضور. ولكن في واقعنا العربي، كما تقول، لم تتربع الشاعرة على عرش الشعر رغم أنها تستحق ذلك. لم تتربع على عرش الشعر لأن الشاعر (الرجل) لا يسمح لها، ويسعى إلى منعها من البروز والحضور. وقد ساعده المجتمع في فرض هذه السيطرة. غير أننا اليوم، نجد أن المرأة الشاعرة، والمرأة المبدعة بشكل عام، استطاعت لفت الأنظار إلى ثقافتها وحضورها الإبداعي، وتمكنت من فرض حضورها الشعري، بشعرها المتفوق وقدرتها الإبداعية الخلاقة.
– من هي الأسماء التي تقصدينها بكلامك؟
الأسماء كثيرة، وكل مهتم أو متابع للشعر يعرف هذه الأسماء. ولا داعي لذكرها لأنها في متناول الكتّاب والنقاد.
– ثمة كثر يتحدثون ونقاد يكتبون عن تأثير شاعر في جيل بكامله. ولكن لم نسمع ولم نقرأ أن شاعرة أثّرت أو حتى تأثر بها شاعر. كيف تفسرين هذا؟
اذا كان كلامك صحيحاً، فإنه يعود إلى تلك الهيمنة الذكورية التي ذكرتها آنفاً. كما يهيمن الرجل في السياسة والتجارة والعمل، من الطبيعي أن يمتد احتكاره هذا إلى الثقافة والأدب.
– هل ينطبق كلامك الاتهامي هذا على الشاعر الراحل نزار قباني؟
أبداً. نزار قباني شاعر كبير، هو شاعر المرأة عن حق. لم يكتب إلا من أجل المرأة وحريتها في الحياة. وكان يتحدث عن أشعاري بإعجاب كبير، وتربطني به علاقة قرابة وصداقة. أختي متزوجة من شقيق نزار قباني، وكانت أيامنا مشتركة لفترة طويلة.
– هل كان لشعر نزار قباني ما يشبه التأثير في شعرك؟
لا، لم أتأثر بأشعاره ولم أقلّدها، فتجربتي مختلفة كلياً عن تجربة نزار. أنا أكتب القصيدة الصوفية منذ تفتح وعيي الشعري، وللغتي منحى مختلف في مقاربة الوعي الشعري. فكيف يمكن التلاقي بين مفترقين شعريين؟ ولكن لا بد من القول إن لأشعار نزار قباني تأثيراً كبيراً في مرحلة أو حقبة شعرية كبيرة تمتد من المحيط إلى الخليج، ولا مجال لنكرانها أبداً.
– لماذا كتابك الأخير «السير في الآخرين»، ماذا عن محتواه ودافعه؟
هو كتاب يمثل الجزء الأهم من ذاكرة عشتها ومارستها. هو كتاب مذكرات وحوارات مع الذات، مكتوب بنبض الشعر. كتاب شعر كله ذكريات وذاكرة. وأردت أن أقول فيه إنني أرى العالم أكثر وضوحاً.
كتابة : إسماعيل فقيه – بيروت