فلسطين و التصوير الفوتوغرافي المبكر
بقلم عصام نصار
“لا تستطيع الصورة الفوتوغرافية الخداع، كما لا يقوى شيء على إضعافها. فهذه الآلة الرائعة لا تقبل الإضافة أو الحذف: إذ ندرك بأن ما نراه ينبغي أن يكون هو الحقيقة. لذا، حين ننقاد إليها، نستطيع السفر إلى كل بلدان العالم من دون التحرك من مكاننا”.
وضع القرن التاسع عشر بصمته على بداية مرحلة جديدة من وعي الإنسانية وذاكرتها، فقد أعادت التطورات التقنية والعلمية تشكيل المعرفة والفكر الإنساني بطريقة لم تكن ممكنة من قبل. وقد غيرت الاختراعات الجديدة المتعددة في مجالات الاتصال والمواصلات والمشاهدة مفهومي الزمان والمكان. فقد أصبح من الممكن الاتّصال الفوري بشخص ما في الجانب الآخر من العالم عبر التلغراف أولاً، ومن ثم عبر الهاتف، تماماً، كما أصبحت مشاهدة صور الأشياء والبلاد والنّاس والأحداث التي كانت بعيدة مكانياً وزمنياً ممكنة.
اختراع العملية التي سميت لاحقاً بالتصوير الفوتوغرافي شكلت، آنذاك، أحد أهم التطورات التي غيرت من الفهم والوعي البشري. فمع اختراع التصوير الفوتوغرافي – الذي عرف، آنذاك،، بـ”الديغيروتايب”، نسبة إلىى “داغير” أحد مخترعي التصوير العام 1839 – أصبح بإمكان البشر أن يحتفظوا بالماضي ميكانيكياً بكلّ ما يحمله ذلك الماضي من تفاصيل لحظية لم تنجح اللوحات الزيتية ولا الذّاكرة البشريّة بنقلها من قبل. لقد كان للتّصوير القدرة على حفظ الماضي ـ سواء أكان الماضي الفردي أم الجماعي التاريخي العام ـ وبالتالي، منح الوجود المستمر لحظات مضت، مثبتاً بذلك أحداثاً تستطيع أجيال لاحقة عدة رؤيتها. ولعل وصف أحد معاصري الاختراع، وهو الكاتب الأمريكي “أوليفر وينديل هولمز”، للصورة الفوتوغرافية باعتبارها مرآة ذات ذاكرة يشكل خير وصف لطبيعة هذا الاختراع الجديد.9 فالصورة أو المرآة، بحسب التعبير، كانت تمتلك، على الأقل نظرياً، القدرة على حفظ الحاضر للأبد، وفي الوقت ذاته جعلت إمكانية رؤية أناس وشعوب وأماكن بعيدة جدّاً ممكنة وواقعية، بينما كانت ملامحها، فيما سبق، تنتمي إلى عالم أعتبر، نتيجة لبعده الجغرافي أو الزمني، جزءاً من عالم الخيال.
لكنّ الافتراض الشائع، وبخاصة آنذاك، بأن التّصوير يقدّم موضوعه بالضّبط كما هو في الواقع، مسألة يجدر النظر إليها بعين الشك. فكما كان الرسامون من قبلهم، بدأ المصوّرون باستعمال المؤثرات الخاصّة للتحكم بوضع وموضوع الصورة، ووضع الكاميرا، ونوعية الإضاءة وقوتها، وغير ذلك حتى يتمكنوا من إنتاج صور تنقل رغباتهم والمعاني التي يرغبون، وليس فقط صوراً تعتمد على التوثيق بشكل ميكانيكي صرف. وكذلك الأمر، فبعد أن يتم إنتاجها، تبدأ الصورة حياة خاصة بها، وتستعمل في مجالات عدة، وبالتالي تعطى معاني متنوّعة غالباً ما تعتمد على المعرفة السّابقة للمشاهدين لموضوعها وردّ فعلهم تجاهه. بعبارة أخرى، فإن الصورة التي تبدأ، عادة، من خلال علاقة ثنائية، طرفاها هما المصور والموضوع، سرعان ما تكتسب أبعاداً جديدة ترتبط بعلاقة ثلاثية الأبعاد، تربط الصورة وموضوعها بالمشاهد، تاركةً المصوّر ونواياه خارج إطار المعادلة كلياً.
إن تداخل المعاني ونشوء علاقات جديدة ما بين موضوع الصورة ومشاهدها، لا يستندان، فقط إلى الاعتبارات الجماليّة، ولكنّ، لاعتبارات أيديولوجية ومعرفية أيضاً. وهذا ما يجعل الصورة الفوتوغرافية، بشكل ما، وسيلة للسيطرة كونها تهب كلاً من المصوّر والمشاهد الحق في تملك وحرية التصرف والتحديق والتفسير لعالم موضوع الصورة. هذه القدرة هي نوع من ممارسة السلطة، ولو بصرياً فقط، على موضوع الصورة بطريقة يمكن القول إنها نوع من الاستعمار البصري والمعرفي.
الصّور الفوتوغرافية إذن – وبكونها ناقلة للمعنى – هي وثائق مرئيّة مهمة لدراسة التاريخ، ويجدر التعامل معها أسوة بكل الوثائق التاريخية الأخرى على أنها منتج يجب ربطه بالشّروط التّاريخيّة التي أنتج فيها. في هذا السياق، فإن دراسة الصور، كوثائق تاريخية، جديرة أن تأخذ بعين الاعتبار، حسبما اقترحت “سارة جراهام براون”، عدداً من القضايا المهمة، منها السياق والظرف الذي أخذت الصورة فيه، إضافة إلى نوعية علاقات السلطة والسيطرة القائمة بين المصوّر وموضوع الصورة، وكذلك الأمر أخذ الاعتبارات الأيديولوجيّة والجماليّة التي أثّرت على اختيار المصوّر لموضوع الصورة، وأخيراً النظر إلى الطريقة التي قد تترجم أو تفهم بها الصورة لدى مشاهديها في الفترة التاريخيّة المحدّدة.10 ضمن هذا الإطار، فإن دراستنا لصور فلسطين من القرن التّاسع عشر، إذا ما أخذت هذه القضايا بعين الاعتبار، فستجد أن الصور مثلها مثل الوثائق التّاريخيّة الأخرى التي تركها الأوروبيون حول هذا البلد، تعكس، بالأساس، مواقف ومفاهيم أوروبية سائدة آنذاك حول فلسطين والشرق عموماً، أكثر من مجرد أنها تظهر كيف بدا المشهد الفلسطيني للكاميرا في ذاك الحين.
بالطبع، من المهم الإشارة إلى أنه على الرغم من أن الصور عكست الوعي والمخيلة التاريخية الأوروبية، فإن ذلك لا يعني أنها لم تساهم، أيضاً، في خلق وإعادة تشكيل هذا الوعي ذاته. فالصور تمتلك سلطة تشكيل المخيلة بقدر ما تعكسها. فكما تشير “سوزان سونتاغ” في دراستها حول الفوتوغرافيا إلى أن الصور تغيّر وتوسع مفاهيمنا كمشاهدين حول ما يستحقّ النّظر إليه وما يجدر بنا أن نلاحظه.11
وكان لاختراع التصوير الفوتوغرافي العام 1839 تأثير بالغ وبعيد المدى على كيفية تصوير وتمثيل وتقديم فلسطين للمشاهدين في أوروبّا، وذلك لأن هذا البلد، البعيد كل البعد عن أوروبا، يشكل الأرض المقدسة لها، وهو، لذلك، كان مألوفاً لدى الأوروبيين (سواء أكان ذلك عبر اللوحات أو الرسومات أو عبر الصور المحفورة باستعمال ما يعرف بـ Camera Lucida ) التي كانت تمثله. ويمكن القول إن عدداً من العوامل كانت وراء الاهتمام الأوروبي الفوتوغرافي بفلسطين في القرن التّاسع عشر، ومن أبرز هذه العوامل، تصاعد وتيرة الاهتمامات العالمية والاستعمارية في المنطقة عموماً، وفي هذا الإطار فإن انتشار الرؤية الرومانسيّة للمواقع غير الأوروبية التي سادت في بعض الأوساط الأدبية والفنية، آنذاك، في أوروبا، قد لعب، بلا شك، دوراً في تنامي مثل هذا الاهتمام. وبالطبع، يضاف إلى هذا عامل آخر وهو تجدد الاهتمام المسيحيّ، آنذاك، في الدراسات الإنجيليّة والتوراتية، الذي لعب دوراً مهماً ضمن الرؤية الأوروبية للشرق. لقد كان قرار المصوّرين الأوربيين السفر إلى فلسطين متعلقاً إلى حد كبير، مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة، بواحد أو أكثر من هذه العوامل.