أوروبا والآخر الشرقي
لقد تطورت العملية الفوتوغرافية في عز زمن التوسع الأوروبي. فاحتلال نابليون لمصر العام 1798 ومحاولته الفاشلة لاحتلال فلسطين بعد ذلك بعامين كانت فقط بداية لاهتمام أوروبي جديد في شؤون الشرق الأدنى. وبعد إعلان داغير عن اختراعه للتصوير، باشر العديد من المصورين الفرنسيين أولاً، ومن ثم البريطانيين، بالسفر إلى أرجاء العالم المختلفة لإحضار أدلة تصويرية للعجائب التي كانت خارج إطار العالم الأوروبي وحدوده الوهمية. من ضمن الأماكن العديدة هذه، شكلت كل من مصر وفلسطين منطقتين مهمتين نتيجة علاقاتهما التاريخية بأوروبا التي تعود للعصور القديمة، لا سيما فيما يتعلق بالكتاب المقدس .
وصول الفوتوغرافيا إلى الشرق الأدنى غالبا ما ارتبط بالاهتمام الأثري المتنامي في الشرق. هذا الاهتمام يرتبط بالدرجة الأولى بالحملة النابليونية في مصر. فقد أحضر نابليون معه لمصر أكثر منن 500 شخص مدني،، منهم 151 عالماً وعضواً في لجنة العلوم الإنسانية، وقد أنتجوا مسحاً شاملاً لمصر صُوِّر تحت عنوان “وصف مصر”.
غير أن الاهتمام بالمنطقة وبالثقافات الأخرى يرتبط، أيضاً، بعملية ثقافية مرتبطة بمحاولات أوروبا تعريف ذاتها. هذه العملية ترتبط، إلى حد كبير، بنظرية داروين في التطور ونظرية سبنسر في التطور الاجتماعي. فقد أخذ الأوروبيون بشكل تدريجي ينظرون إلى الثقافات والحضارات الأخرى ويمثلونها كما لو كانوا يرون بها أو من خلالها الكيفية التي عاش أجدادهم بها. المقصود أن الثقافات الأخرى قد تم وضعها في إطار محدد وضعت أوروبا به، كما لو أنها تشكل الحالة الأكثر تطوراً في التاريخ والحضارة البشريين. مساهمات الحضارات الأخرى أخذت تكتسب أهمية فقط بالقدر الذي يمكن القول إن هذه الحضارات قد ساهمت في تطور ما عرف “بالحضارة الغربية”. وبمعنى آخر، فقد بدأ الأوروبيون بالتفكير بأن التطور هو ليس مفهوماً فقط مرتبطاً بالزمن فقط، بل أيضا بالمكان، وبذا فقد أصبح ما هو “خارج أوروبا” ينظر إليه ولو أنه “ما قبل أوروبا”.
المسح الأثري الشامل لمصر الذي أجراه علماء نابليون، واكتشاف أبو الهول، وحجر رشيد الذي ساعد في الكشف عن عالم كامل عبر اكتشاف أسرار اللغة الهيروغليفية بلا شك، قد أعطى دفعةة لمثل هذا الاهتمامم الأوروبي المتصاعد في آثار بلاد الشرق الأدنى. تدريجياً، بدأت الفوتوغرافيا تجد طريقها ضمن هذه النشاطات الأركيولوجية، حيث بدأ العلماء باصطحاب المصورين معهم للمشرق في رحلاتهم للتنقيب عن الآثار.
عامل آخر مهم لعب دوراً في زيادة الاهتمام الفوتوغرافي بالمشرق في القرن التاسع عشر، يرتبط بالنظرة الرومانسية لهذا الجزء من العالم التي كانت آخذة بالانتشار ما بين الأوروبيين آنذاك، فصورة الشرق كمكان متخيل مليء بالإثارة الجنسية والسحر والرغبات الدفينة كانت آخذة بالانتشار التدريجي آنذاك. فقد ساعد الأدب الرومانسي ورؤيته التاريخية التي عممت النظرة الرومانسية لعموم التاريخ مثل كتابات هوجو، وجرارد دونرفال، ولوحات جون ليون جيروم، ودولكروا، ودافيد روبرتس، وبعض من كتابات فلوبير، على خلق مخيلة أوروبية حول الشرق كمكان للإثارة. فنحن نجد مخيلة عالم “ألف ليلة وليلة” بما فيه من الليالي المجونية بمصاحبة الجواري قد تحول إلى حلم أوروبي يسعى وراءه الجيل الصاعد.
رؤية الشرق كمكان مثير سرعان ما وجدت طريقها لعالم الفوتوغرافيا، فقد بدأ المصورون بالتقاط صور لنساء الشرق في أزياء مختلفة، وأحيانا عراة وفي أوضاع مثيرة. صور عديدة قد ظهرت ووزعت في أوروبا لنساء عاريات تحمل أسماء مثل نساء الجزائر، أو نساء النوبة، أو بدويات الشرق كانت آخذة بالانتشار، وبخاصة على يد المصورين الفرنسيين المبكرين.
ومع هذا يبقى هناك عامل رئيسي دفع باتجاه تصوير فلسطين آنذاك، وهو يرتبط بتصاعد الاهتمام بالدراسات التوراتية والإنجيلية بهدف تزويد الإثباتات لصحة الرواية الدينية. المصورون المبشرونن شكلوا جزءاً مهماً منن مصوري فلسطين في القرن التاسع عشر وبعده. منهم مثلاً، الأمريكي “دوايت ألمندورف” الذي صور فلسطين العام 1901. فهو يصف هدفه لزيارة فلسطين وتصويرها في مقدمة كتابه المعنون باسم “حرب صليبية بالكاميرا على البلاد المقدسة”، حيث يقول:
لقد بدأت رحلتي العام 1901 للبلاد المقدسة … ببساطة بهدف السير عبر البلاد لأنني أرغب بأن أرى بأم عيني الأماكن المذكورة في الإنجيل، وأن أدرس عادات قديمة ما زالت سائدة في ذلكك المكان، وإن أمكن أنن أفهم مقاطع محددة في الكتاب المقدس هي غامضة بالنسبة لي ولمن علموني. في الواقع، كان إيماني مهزوزاً وكنت أشك في صحة ما أعرفه، لكن آية إنجيلية من إنجيل متى جعلتني أبحث، حيث تقول الآية: … اسأل وستحصل على ما تبغي؛ ابحث وستجد؛ أطرق وستفتح الأبواب لك”. لقد ذهبت وسألت، وطرقت وهاأنذا وقد توقفت عن الشك، فأنا الآن أعرف. إن رحلتي على ظهر فرس عبر الديار المقدسة قد كشفت الحقيقة لي، وآمل أن يكشف وصفي لها في هذا الكتاب الحقيقة للآخرين.12
غارات ألمندورف “الصليبية” أنتجت مئة صورة لمواقع دينية وتاريخية في فلسطين عنونت جميعها بدون استثناء بالإشارة إلى مقاطع من الإنجيل.