معرض الخريف أم خريف المعارض في متحف سرسق؟ سؤال يطرح نفسه في صالون الخريف بدورته الثانية والثلاثين، الذي يقام في متحف نقولا إبراهيم سرسق (الأشرفية – يستمر لغاية 27 شباط – فبراير2017) بعد طول انتظار، بمشاركة 52 فناناً انتخبت أعمالهم من بين 322 ملفاً مقدماً إلى لجنة تحكيم مؤلفة من خمسة أعضاء من أصحاب الخبرات المتفاوتة المعرفة في الفن عموماً وتداوليات المعاصرة خصوصاً، والتي جاءت نتائجها على نحو غير متوقع وصادم للآمال المعقودة حول الصيغة الجديدة لإطلاق معرض الخريف الذي ينتظره سنوياً الفنانون ورواد المتاحف والمتذوقون وأصحاب المجموعات. لعل الصدمة هي من أثر الذوقية الجديدة التي تفرض نفسها من جانب موظفين جدد، في التعاطي مع صرح ثقافي عريق بنظرة قاصرة على الراهن في الفن اليوم على أنه حتمية غير قابلة للجدل أو النقد والتقييم أو المراجعة للتاريخ الفني على الأقل الذي يجهله على ما يبدو الكثيرون.
مقاربات جديدة
تغييرات كثيرة تؤكد الانقلاب على ماضي متحف سرسق بتقاليده في ضبط شروط العرض والمعاينة المباشرة للأعمال عند التحكيم وتشجيع المواهب الجديدة واحترام الفنانين المكرسين ومنح الجوائز. تلك التقاليد التي بدأت مع إنشاء المعرض السنوي لصالون الخريف منذ افتتاحه في العام 1961، سوف تتغير من الآن فصاعداً كي يتحول هذا الصالون إلى معرض يقام مرة كل سنتين على أن يتغير كل مرة أعضاء لجنة التحكيم الموكلة بدراسة ملف الفنان الذي يتضمن صورة العمل المقدم للمشاركة على شاشة الكمبيوتر، وذلك على مدى شهر كامل قبل موعد التصفيات النهائية. ومن المفارقات الكبرى أنه بعد توسعة متحف سرسق وإضافة عدد قاعاته وطبقاته بما يتناسب مع التظاهرات الكبرى، تم تقليص عدد الفنانين المقبولين للمشاركة في معرض الخريف هذا العام إلى نصف العدد الذي كان عليه في الدورات السابقة.
هذا القرار الصادر عن لجنة التحكيم جاء وفق البيان «سعياً إلى تضخيم مجالات القوة من خلال المقترحات في شكل عام، والنظر في كيفية تقديم الأعمال مع بعضها بعضاً كمعرض موحد». فأين هي إذاً مجالات القوة والتضخيم في معرض أقل ما يقال فيه إنه متواضع ولا يعكس حقيقة المستوى الفني في لبنان، لا على صعيد جيل المحدثين الكبار (من أمثال الفنان ستليو سكامنغا الذي شارك بلوحة واحدة) ولم يستطع أيضاً أن يكون منصة بديلة للفنون المعاصرة. إلى أين ذهبت الرهافة والإبهار اللتان لطالما تحلت بهما معارض الخريف في دوراته السابقة؟
تحت شعار مستتر ألا وهو إطلاق البوح والمشاعر والمكبوتات العاطفية لدى الجيل الجديد، في مقابل تيمات أخرى مقطوفة من أزمات الحياة الاجتماعية والفساد السياسي والدمار البيئي ومآسي الحروب، تبرز النوايا المضمرة لأعضاء لجنة التحكيم في البحث عن خيط انسجام بين التيمات، التي تدور حول علاقة الإنسان بجسده وحواسه ومحيطه. ذلك ما جعل الخيارات تدخل في نفق الزيغ في الرؤية أحياناً. إذ بين سذاجة في التعبير عن العالم الطفولي (رولا دلي) ومناخات الطبيعة الداخلية وحالات التأمل (عيسى حلوم وفاطمة بحمد)، المقتبسة من تشخيصية الفنانة فاطمة الحاج، والركاكة في رسم الوجوه (ريم عاصي)، فإن الإمعان في استعراض الجسد ولو بالقبح وقلة الدراية (ديانا الحلبي) يدفعنا للإقرار بجمال الارتجالات اللونية التي تحيط بالمرأة كملهمة للفن (إدغار مازجي) وتستيقظ الحواس على أدراج مفتوحة تئن من قوة الشهوة الحمراء الكامنة في الملابس الداخلية للأنثى الغائبة عن غرفتها (غادة الزغبي).
في أفضل الأحوال فإن حضور المرأة كموديل فني يتخطى مجاله الأكاديمي (لوحة إليسا رعد) كي يشكّل استعادة غير مباشرة لواقعية لوتشيان فرويد. ما من شك في أن ثمة تعمّداً ظاهراً في إبراز الجسد سواء في اللوحة ضمن مفارقات تكمن بين النضج والحنين إلى الطفولة (سيمون مهنا) أو بأسلوب المباشرة في اللقطة الفوتوغرافية (لارا تابت) أو في شريط الفيديو (الثنائي جيمي دباغ وكريستين لبّان) كلهــا أعمــال تطرح نفسها تحت مسمى «الجرأة» وتحدي المجتمع بشيء من النزق الفني والسطحية في الطرح والمعالجة الفنية.
من قال إن صالون الخريف هو لهواة الفن والمبتدئين بالمهنة؟ ثمة حفاوة ظاهرة في إبراز قدرات الرسم اليدوي، إلا أنها غالباً ما تتبدى ضمن الطروحات التي يتداولها تلامذة الفن (رسوم أنطوان سويد، ريا مازجي، أتيان بسطرمجي، عبير مقدم)، في نقل الواقع، من دون أن تندرج في أساليب شخصية محددة إلا نادراً، وإلى جانب بعض الأعمال الطباعية (حسان زهر الدين)، وبعض اللوحات التجريدية، لا نعرف دواعي قبول عرض لوحة موضوعها رسمٌ لكرسي (بتينا خوري بدر) يقلد ببساطة العمل الشهير لرائد المينمال – آرت جوزف كوزوت، سوى أنه يتردد في تجهيز جاكو رستيكيان برمزيته كمجرد حطام هندسي، إلا أن الموضوع بحد ذاته فَقدَ بريقه منذ زمن، لفرط ما استُهلك واستُنفذ لاسيما في أعمال التجهيز.
لمعات وأفكار
ثمة لمعات مضيئة لا يخفى بريقها على ناظريها، تؤكد جدية التجارب المنفتحة على الخامات والأفكار والرؤى الجديدة، حيث تطل المشهدية اللونية ومداها الارتقائي في عمل جداري لهنيبعل سروجي، و«مجموعة انغرام»، التي قدمت صوراً وثلاثة أعمال فيديو تروي عملية الدمار البيئي الذي من شأنه القضاء على الجغرافيا الطبيعية في لبنان. ويستعير عبد القادري من تراث الواسطي في فن المنمنمات، شخصيات وأحداثاً وسط مناخات احتفالية في نوع من التشخيص الحكواتي المضخّم على نقيض العالم المصغر لرقعة المنمنمة التي تظهر بحلة أخرى في صورة مدمّجة لماريا كساب تحمل إسقاطات الواقع السياسي والإيدولوجي.
يلفت من بين الأعمال: شريط فيديو لمروان مجاعص عبارة عن لقطة للشمس (بإذن من ناسا) ضمن موضوع بعنوان 40 يوماً حداداً على قصف الغوطة في سوريا بغاز السيرين التي أودت بحياة 1729 شخصاً، والثور القتيل لفاطمة مرتضى المتقاطع مع التكاوين العضوية في تجريد بلسم أبو زور، وتجهيز بعنوان «حجر الأساس» لسمر مغربل للإشارة إلى ازدواجية الإعمار والتدمير، والأشكال الصافية لخزفيات نيفين بويز التي لا تفارق بياضها ألوان الحجر.
ماذا تفعل لو باغتتكَ سيدة عجوز بيدها مسدس؟ سؤال طرحته كارمن يحشوشي في صورة فوتوغرافية، لا تقل عنها طرافة صورة أخرى (تانيا طرابلسي) لرجل مسن على الأرجوحة. وفي حين تقوم دالا ناصر بإعادة تدوير نفايات محترف دايفيد أدغاي في عمل ينتمي إلى الفن الفقير، تقفو كريستيانا دي ماركي في مطرّزاتها ارتسامات مواقع النجوم في السماء. إنه اكتشاف لا يوازيه سوى عمل ريمون الجميّل «ذاكرة الماء» المكوّن من ألبوم صور عثر عليه بعد تعرضه للماء وكانت الصور قد ذابت وتحولت بفعل الرطوبة إلى بقع لونية وزيوح مائعة.
لا يحتاج المرء إلى عناء للاستدلال على مواقع القوة والضعف في المعرض لدى المواهب الجديدة. ولكن الرهان على المستوى الفني في الدورة المقبلة لصالون الخريف، سيضع متحف سرسق أمام تحديات جديدة لاستعادة دوره الاستقطابي وسط تحديات السوق الفنية إن لم نقل المنافسة الجديّة مع الآرت – فير والمعارض الكبرى في زمن العولمة؟