قاطع عماد كسحوت مدير “الفنون الجميلة” حديث الفنان الياس الزيات عندما أشار هذا الأخير إلى عدم وجود توثيق لحركة الفن السوري المعاصر، مستثنياً ما تمّ الاشتغال عليه من أرشفة لمجموعة المتحف الوطني، والتي تصل إلى قرابة ألف ومئتي لوحة. تمّ التوثيق لها منذ أول معرض للفن التشكيلي أقيم في العاصمة السورية عام 1950. كلام الزيات جاء في ندوة “الفضاء الثقافي التفاعلي” (عين الفنون”)، ليأتي توضيح كسحوت عن الجهد الذي تقوم به مديريته منذ ثلاث سنوات، لتوثيق أكثر من أربعة عشرا ألف عملاً فيناً بين تصوير ونحت وحفر وغرافيك، قوام المجموعة الخاصة من مقتنيات وزارة الثقافة.
اللقاء الذي جمع كلّ من الزيات والفنان سعد يكن بإدارة الفنان والناقد طلال معلّا؛ رافقه عرض بصري “سلايدز” لأعمال المشاركين، ليحظى بحضور لافت على مستوى فنانين ونقاد ومهتمين ومتابعين للحركة التشكيلية في البلاد، حيث أتى تحت عنوان إشكالي: “أزمة الفن- أزمة الفنان” مؤلّباً مواجع عديدة لدى العديد من الحاضرين. تأتي في مقدمتها تحطيم عدة تماثيل في غير مدينة سورية على أيدي غلاة من تنظيمي “جبهة النصرة” و”داعش”، للوصول مؤخراً إلى تدخل فظ من جهات دينية منعت عرض تماثيل لآلهة العرب القديمة (اللات والعزة وهبل) في غاليري (ألف نون) مهددةً بإغلاق الصالة.
ذهنية التحريم هذه طالت أيضاً العديد من مراسم لفنانين أحرقها متطرفون تحت طائلة خطفهم وذبحهم وتكفيرهم، كان أبرزها كل من مرسم أحمد معلّا في بلدة قدسيا، ومستودع أخشاب النحات مصطفى علي ببلدة المليحة بريف دمشق، بالإضافةً لمرسم الفنان سعد يكن بريف حلب الشمالي.
موت الفن
موت الفن كما موت التاريخ، كما موت كل الأشياء التي يُنظر لها في إطار العولمة الثقافية – برأي طلال معلا، والذي أحال ذلك إلى التغيير غير المسبوق في أدوات الفن نفسها، والانتقال بها من تقليدية إلى معاصرة، لكن هل يمضي الفن إلى هويته أم إلى حتفه؟ سؤال ساقه معلا دافعاً الحديث إلى نقاش مباشر عن أزمات ضارية يعيشها الفنان في ظل الحرب، سواء منها اقتصادية لها صلة بسوق الفن الجديد، أو حتى بإستراتيجية عمل المؤسسة الثقافية.
الفنان سعد يكن ردّ هذه الأزمات بدوره إلى طبيعة علاقة الفنان بالأيديولوجية، وتسييس الكثير من مواقف الفنانين، على خلاف آخرين أخذوا مساحة أمان، فلم يركبوا حصان الأيديولوجية، مما أفسح أمام هؤلاء علاقة جديدة للتفكير باللوحة وتحديد موقفهم من العالم، وفهم وظيفة الفن بشكل عام، إذ لا يمكن -برأي يكن- أن يبنى هذا الموقف على رد فعل وانعكاس مباشر للحرب في اللوحة، بقدر ما يتوجب على الفنان أن يسعى دائماً للإفلات من سطوة الفوتوغرافيا، مستنكراً نقل الواقع وتصوير الموت والمباني المدمّرة، فهذه مهمة الكاميرا والفيلم الوثائقي لا اللوحة.
مافيات الصالات، ومضاربات أسواق الجوار، وأميّة العين العربية، وتلفيق نجوم تشكيل، كانت حاضرة في هذا الجدل الدمشقي بين كل من إحسان عنتابي وسعد القاسم وأنور الرحبي وأسماء فيومي وعصام التكروري وديانا جبور، حيث أشارت هذه الأخيرة إلى ضرورة الانتباه إلى مادة التربية الفنية في المدارس، وأن لا تكون مجرد حصة رسم بمعناها التقليدي، فيما ذكّر الزيات ببدايات المحترف السوري ما بعد فترة الاستقلال، مستحضراً تجربة مرسم “فيرونيز” الذي شهد أعمالاً منتصف القرن الفائت لكل من محمود حماد وميشيل كرشة ومحمود جلال ونصير شورى. بالمقابل نفى الزيات وجود أزمة في فن، متسائلاً عن حجم المقالات المكتوبة عن هذا التشكيل السوري في الصحف والكتب والدوريات؟ وما هي الجهود التي بُذلت للتعريف بالحركة التشكيلية سواء في المحيط العربي أو في الغرب، مستثنياً في ذلك تجربة مروان قصاب باشي كفنان اختط مساره لوحده وطارت شهرته في الصالات الألمانية، وتساءل: “من يتذكر اليوم المجموعة الخاصة المقتناة لسوريين في معهد العالم العربي بباريس، وهي مكوّنة من اثنتي عشرة لوحة لأبرز المصورين السوريين؟ من يكتب عنها؟ من يعرف اليوم أين ذهبت لوحة (حريق البرلمان) لسعيد تحسين وسواها من الأعمال التي لم تحظَ بتوثيق جدِّي مثلما فعله المصريون والعراقيون، إذ وثّق هؤلاء فنهم المعاصر في قواميس فنية غاية في الدقة، ووزعوها في كل صالات ومتاحف الكوكب؟”.
سرد الزيات جاء أيضاً عن جهد بذله في مجال الجمع بين فني المخطوطة الإسلامية والأيقونة، منتهجاً طريق البحث في الفن السرياني وجدارياته ومقاربتها من حيث الزخارف والتركيب. مثال ساقه الأيقونغرافي الثمانيني عن دأبٍ شخصي قضى فيه أكثر من نصف قرن، فيما كانت آلاف الأعمال لفنانين سوريين تقبع في مستودعات أكلتها الرطوبة والإهمال، وذلك بعد خسارة وزارة الثقافة منذ سنوات ما قبل الحرب لقطعة أرض بحيّ العدَوي، كانت مخصصة لبناء متحف للفن السوري الحديث، لتحل مكانه حديقة للحيوانات!