محمد آيت ميهوب*
( ثقافات )
“العراء” هي الرواية الثانية للأديبة التونسيّة حفيظة قارة بيبان المعروفة في الأوساط الأدبية بلقب “بنت البحر”، وكانت قبل هذا العمل قد أصدرت رواية أولى بعنوان “دروب الفرار” . والناظر في الروايتين يلمس بينهما خيط اتّصال تجسّده شخصيّتا البطلتين الراويتين : “شرود” في “دروب الفرار” و”دجلة العامريّ” في “العراء”. فكلتاهما تواقّة إلى التحرّر والانعتاق من كلّ القيود والأطر والقوالب بما في ذلك الجسد بل الوجود نفسه، وكلتاهما تعاني المرض (العصاب النفسيّ/شرود، وسرطان الثدي ثمّ سرطان الرحم/دجلة) وتقاومه ثمّ تستسلم له، وكلتاهما تعبد الفنّ (الموسيقى/شرود، والكتابة/دجلة) وتترهّب له وتتمسّك به مخلّصا ومنجيا. مع ذلك فإنّ ثمّة نقطة افتراق أساسيّة بين البطلتين تكشف عمق التطوّر الذي عرفته تجربة المؤلّفة في روايتها الثانية. فعلاوة على نضج أدواتها الفنيّة وسيرها أشواطا في مغامرة المزاوجة بين التخييليّ والمرجعيّ وإتقانها لعبة نصب المرايا وإدراتها في حركة لولبيّة، لم يعد سعي البطلة المحموم إلى التحرّر منغلقا على الذات ولم تعد المعركة بينها وبين المجتمع والتقاليد معركة فرديّة خالصة، بل اندغم جهاد الذات من أجل التحرّر عن طريق الكتابة بجهاد المجموعة في بعدها القومي العربيّ من أجل التحرّر من ربقة الاحتلال الإسرائيلي، وأضحت معركة جسد البطلة “دجلة” في مقاومته السرطان معركةَ فلسطين والأرض العربيّة عامّة في مقاومة السرطان الإسرائيليّ.
إنّ الرواية قائمة على المماهاة بين البطلة “دجلة” وفلسطين وبين جسد البطلة وأرض فلسطين. هذه المماهاة جعلت القضيّة الفلسطينيّة قطبَ الرحى الذي يدور حوله عالم الرواية التخييلي، والعمادَ الذي تنهض عليه بنيتها الدلاليّة. ولكن أنّى لمؤلّفة تونسيّة تعيش في أطراف الوطن العربيّ بعيدا عن الأرض السليبة أن تجعل القضيّة الفلسطينيّة موضوعا لنصّها الروائيّ ؟ أيّ جسر يمكن أن يوصل المؤلّفة إلى فلسطين ويمكّنها من أن تحلّها عالمها الأدبيّ التخييليّ دون أن يبدو في ذلك افتعال وتصنّع ؟ كيف أمكن لبنت البحر أن تستثمر موضوعا بعيدا عنها جغرافيا وتقنع قارئها بأنّه قريب منها وجدانيّا ؟
السرّ ظفرت به المؤلّفة في حدث تاريخيّ عابر جمع بين فلسطين وتونس وما كاد يلتفت إليه كثير من السياسيّين والمؤرّخين، والجسر أسعفتها به مدينتها التونسيّة البحريّة ومسقط رأسها : بنزرت. فالحدث الذي اتخذته بنت البحر مهادا لاستثمار القضيّة الفلسطينيّة سرديّا هو قدوم آلاف الفدائيّين الفلسطينيّين إلى ميناء بنزرت يوم السبت 28 أوت 1982 مهجّرين من بيروت بعد الحصار العنيف الذي تعرّضوا له هناك طيلة صائفة 1982. هذا الحدث التاريخيّ المرجعيّ استقته بنت البحر من ذاكرتها الفرديّة ومن الذاكرة الجماعيّة لمدينة بنزرت، تلك المدينة التي اختارها الفلسطينيّون ميناء يحطّون فيه الرحال، تلك المدينة الشهيدة التي سبق لها أن عاشت قبل قدومهم بعقدين من الزمن (جويلية 1961) صائفة جهنّمية حاصرها فيها الجيش الفرنسيّ المستعمر وأمطر أهلها شرّ نيرانه. هذا الحدث رحلت به المؤلّفة من التاريخ إلى التخييل ومن الذاكرة إلى الإبداع. فجعلت منه نواة سرديّة تفرّعت عنها بقيّة الأحداث التي مكّنتها من أن تبوّئ القضيّة الفلسطينيّة قلبَ العالم التخييليّ : تعرّف دجلة إلى الشاعر الفلسطيني غسّان سلمان أحد الفلسطينيّين المهجّرين إلى بنزرت، ظروف حصار بيروت وتفاصيل القدوم على متن السفينة القبرصيّة “سولفرين”، تاريخ الفلسطينيّين مع التهجير والمذابح (1982،1976،1967،1948)، هجوم الطائرات الاسرائيليّة على مقرّ إقامة الفلسطينيّين في حمام الشطّ بتونس (1985)…
لقد مثّل اختيار المؤلّفة هذا الحدث التاريخيّ قطب عالمها الروائيّ، أوّل أسباب نجاح روايتها. فقد ضمن لها وقوف القارئ موقفا تصديقيّا إزاء نصّها، وقبوله بمشاكلة العالم الروائيّ للعالم الواقعيّ، واقتناعه بإمكان أن يكتب كاتب غير فلسطينيّ نصّا روائيّا عن القضيّة الفلسطينيّة. هذا النجاح في كسب تعاطف القارئ قلّما توفّر لرواية أخرى قبل “العراء” اتّخذت القضيّة الفلسطينيّة مدارا لها ولم يكن مؤلّفها فلسطينيّا أو ربطته على الأقلّ تجربة حياة ما مع الفلسطينيّين في أرضهم أو في منفاهم. لكنّ هذا العامل وحده على أهميّته لا يفسّر لنا سرّ نجاح الرواية. بل يبدو لنا أنّ ما ضمن للمؤلّفة النجاح فعلا هو وعيها وهي تستثمر القضيّة الفلسطينيّة بأنّها تكتب نصّا روائيّا فنيّا في المقام الأوّل لا نصّا سياسيّا أو روبرتاجا صحفيّا أو خطابا تحريضيّا. فأمكنها ذلك من أن تنجو من أبرز المزالق التي وقع فيها من سبقها من الكتّاب التونسيّين إلى الكتابة عن القضيّة الفلسطينيّية: مزلق تغلّب القضيّة على الفنّ، فلا تخرج الكتابة عن الشهادة أو الإدانة. ونحن في هذا السياق نوافق الشاعر الفلسطينيّ رشاد أبو شاور في حكمه على “العراء” بأنّها “أوّل رواية تونسيّة تعنى بالموضوع الفلسطينيّ هذا مع موضوعها القويّ المؤثر والذكيّ” . لم تكن “العراء” الأولى من حيث استثمارها الموضوع الفلسطينيّ ولكنّها الأولى من حيث تحويلها القضيّة الفلسطينيّة من المدلول إلى الدال، ومن الخطاب إلى الخبر، ومن المباشرة إلى الإيحاء، ومن المرجع إلى التخييل، ومن التبليغ إلى التسريد….
وحول هذه المسألة سيكون مدار هذه المقالة. فيكف أمكن للمؤّلّفة أن تُسكن القضيّة الفلسطينيّة عالم التخييل وهي أكثر قضايانا اشتباكا مع الواقع والتاريخ ؟ وكيف تسنّى لـ”بنت البحر” أن توائم بين “القضية” و”الفنّ” ؟ وما هي الأدوات السرديّة والحيل الفنيّة التي اعتمدتها للوصول إلى المماهاة بين فلسطين و”دجلة” بطلة الرواية، وبين أرض فلسطين وجسد البطلة ؟
1 – بين الفانتاستيكي والمرجعيّ والتخييليّ :
تراوح الرواية في أحداثها وأطرها وشخصيّاتها بين هذه الأبعاد الثلاثة وتعمد أحيانا إلى المزاوجة والمداخلة بينها، فيكاد الأمر يلتبس علينا وتصبح الحدود هشّة رجراجة بين الواقعيّ والعجائبي والمعقول واللآّمقعول، وبين ما ينتمي إلى الكتابة وما ينتمي إلى التاريخ.
1-1- الفانتاستيكي:
بالفانتاستيكيّ تتفتح الرواية وعليه تنغلق. ففي الفصل الأوّل المعنون بـ”نداءات الفجر الشتويّ” تطالعنا البطلة/الراوية وهي تعاين ردود أفعال أسرتها بعد أن لفظت الروح وأضحت جثمانا هامدا مسجّى، ومع ذلك ظلّت لها القدرة على الإحساس بما حولها والإنصات إلى الصراخ والنواح والنظر إلى الوجوه والأشياء :”ضجّ البيت وعلا الصراخ. شاهدتهم يتراكضون.. حسام يرفع السماعة ويضرب على الأرقام، سناء تبكي قرب السرير.. عليّ يدعوني ويعيد النداء، ويخرج راكضا إلى أبيه… وسلمى تفتح النافذة لغبش الصباح الطالع… تعجّل بترتيب الغرفة… تلمّ الحبّات المبعثرة وتجمع شظايا الزجاج المكسور.. تبدّل الملاءة المبلّلة، وتفتح أخرى ناصعة البياض وترفع عليّ الغطاء… تسوّيه… قلت لها أنّي لا أشعر بالبرد.. لم تجب.. تنظر إليّ بأسى كأنّها لا تسمعني.”
إنّ التأمّل في هذه الفقرة يكشف أن الراوية قد تعمّدت تقديم الحدث الفانتاستيكي تقديما بسيطا لا تهويل فيه ولا مبالغة ولا سعي إلى إشعار القارئ باختراق العالم السرديّ العالمَ الطبيعيّ المنطقيّ. وفي ذلك حسب تودوروف ما يميّز الفانتاستيكيّ من العجائبيّ والغرائبيّ. ونتيجة هذا الاختيار السرديّ يجد القارئ نفسه في حيرة من أمره متردّدا بين اعتبار الحدث خارقا للعالم الطبيعيّ المنطقيّ، أو مجاراة الراوية والإقرار بإمكان حدوث ما ترويه في الواقع المعهود.
وما يكاد القارئ ينتبه إلى المأزق الذي ترميه فيه الراوية، حتى يدهمه حدث آخر لا يقلّ خرقا للمألوف. فقد تطلّعت البطلة الراوية حولها تنظر وهي ميّتة إلى جدران الغرفة فلمحت صورتها تضجّ حياة وجمالا. فحنّت إلى وجودها السّابق بين الأحياء وما لبثت إلاّ طرفة عين حتّى غادرت إطار الصورة وخرجت طيفا يسير بين الناس :”(…) وبينما كانوا يتحلّقون حولي واجمين، ظلّت الصورة وحدها دوما تبتسم وألق الروح الجذلى في العينين المتحدّيتين دوما يضيء. وكهبّة نسيم شاهدتني أنسحب من الإطار.. أخرج من االصورة… في غمرة اضطرابهم، مع ضجّة الأمطار، وهدير البحر، وشبه ظلمة البيت، لم يلمحني أحد، لم يلمحني أحد”.
وفي آخر الرواية يعود الفانتاسيتكي من جديد. فبينما كان مشيّعو جنازة البطلة متحلّقين حول قبرها يزمعون دفن الجسد الميّت في أعماق الأرض، انفلتت البطلة من بين أيديهم وهم لا يشعرون وتعالت طائرة إلى الأعالي مرتفعة عن عالم الأرض. وقد ساقت الراوية الحدث الخارق للمألوف مرّة أخرى في برود وحياد يجعلان التأويل مشكلا ملتبسا لا يدري القارئ أهو إزاء حدث خارق فعلا، أم حيال حدث يمكن خضوعه لمنطق العالم الطبيعي :”طرت بعيدا مع الريح.. كان هدير البحر القريب أسفل الربوة يعلو على ضربات فأس في المقبرة. وكنت أعلو على غيمة بيضاء، سابحة في درب نورانيّ، لا نهائيّ…(…) مضيت نسمة مسافرة، أعلو في البياض النورانيّ، تاركة الأرض تلفّها بقايا الغيوم” .
إنّ للفانتاستيكيّ في رواية “العراء” وظيفتين أساسيّتين: وظيفة تمكين البطلة “دجلة” من تحقيق التحرّر التام والخلاص الأخير بدءا من الانعتاق من الجسد فإطار اللوحة وانتهاء بالأرض التي عمّها الخراب. أمّا ثانية الوظيفتين فهي دعم الخاصيّة الفنيّة الإيحائيّة في النصّ وتنبيه القارئ إلى أنّه في محضر عمل روائيّ في المقام الأوّل، له قدر كبير من الحريّة في التعامل مع الواقع والمنطق.
1-2- المرجعيّ :
نقصد بالمرجعيّ مجموع ما ينفتح عليه النصّ الروائيّ التخييليّ من شخصيّات وأطر ووقائع لها وجود عينيّ تاريخيّ في الواقع. وقد حضر المرجعيّ في النصّ على ضروب متعدّدة :
1-2-1 : إدراج شخصيّات لها وجود واقعيّ حقيقي بعضها ذكر عرضا وبعضها كان له إسهام في الأحداث من ذلك : أبو جهاد، أبو عمّار، صلاح خلف، هايل عبد الحميد، محمّد مزالي، محمد الصالح فليس، نور الدّين خضر، جمال هراوي، على عزعوز….
1—2-2 : توظيف أطر مكانيّة مرجعيّة : ولا نقصد بالأمكنة المرجعيّة تلك الأماكن الكثيرة في الرواية التي حملت أسماء أماكن مرجعيّة موجودة في الواقع إلاّ أنّها احتضنت أحداثا تخييليّة. ففي هذه الحالة لا تتعدّى وظيفة المكان حتّى وإن حمل اسما مرجعيّا وظيفة مشاكلة الواقع والإيهام بالتشابه بين العالم التخييليّ والعالم الواقعي. أمّا الأماكن التي نعتبرها قد اضطلعت بوظيفة مرجعيّة فعلا فهي الأماكن التي حملت أسماء مرجعيّة واحتضنت أحداثا تاريخيّة جاءت في الرواية منصهرة مع الأحداث التخييليّة لا فصام بينها. ويمكن أن نذكر أمثلة على هذه الأمكنة في الرواية : ميناء بنزرت الذي حطّ عنده الفدائيّون الفلسطينيّون، وباخرة “سول فرين” التي أقلّتهم من بيروت، ومركز الإعلام الفلسطنينيّ بحمّام الشطّ في العاصمة التونسيّة الذي أغارت عليه الطّائرات الإسرائيليّة، ومقبرة مدينة “حمام الأنف” التي أضحت تسمّى “مقبرة الشهداء” منذ أن دفن فيها شهداء الغارة الإسرائيليّة من فلسطينيّين وتونسيّين.
1-2-3 : الأحداث التاريخيّة: رسمت رواية “العراء” في أثناء السرد خطا تاريخيّا تابعت فيه مسارا الهزائم العربيّة من سقوط غرناطة وتشرّد الأمير عبد الله، فالنكبة والتهجير الأوّل في 1948 وهزيمة 1967 والهجوم على المسجد الأقصى في 1969، إلى التهجير من بيروت في 1982 والغارة الإسرائيّلية على حمام الشطّ بتونس في 1985 وبداية التطبيع بين العرب وإسرائيل.
1-2-4 : تضمين النصوص التوثيقيّة : عمدت المؤلّفة إلى استثمار تقنية “الكولاج” فضمّنت المتن الروائيّ ملصقات من الصحف التونسيّة والعربيّة والإسرائيليّة واقتطفت فقرة من الخطاب الذي توجّه به محمّد مزالي الوزير الأوّل في الحكومة التونسيّة إلى منظمة الأمم المتّحدة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأربعين لتأسيسها وقد صادف ذلك غداة الغارة الإسرائيليّة على “حمام الشط”. وأقحمت المؤلّفة تقارير لبعض الجمعيّات الفلسطينيّة تفضح مخطّط تهويد القدس والتطبيع بين تونس وإسرائيل.
يضطلع حضور العناصر المرجعيّة في صلب العالم التخييليّ بوظيفة شدّ النصّ الروائيّ إلى رسن التّاريخ، وتجذيره في الواقع، وتقديم مادّة تسجيلية توثيقية تلقي أضواء على جوانب غامضة من القضيّة الفلسطينيّة عامّة وظروف قدوم الثوّار الفلسطينيين إلى تونس وإقامتهم بها خاصّة.
1-3 : المزاوجة بين المرجعيّ والتخييليّ :
لم تكن الحدود واضحة دائما بين العناصر المرجعيّة والعناصر التخييليّة. فكثيرا ما عمد السرد إلى المزاوجة بين المرجعي والتخييلي والانتقال بينهما في حركة ذهاب وإياب يعود فيها أحدهما إلى الآخر وينطبق عليه. فهذا أمير وشرود الشخصيّتان التخييليّتان في “دروب الفرار” رواية بنت البحر الأولى يحضران في “العراء” بوصفهما صديقين لشخصين لهما وجود واقعيّ تاريخيّ هما محمد الصالح فليس ونور الدين خضر. وبين شخصيّة البطلة “دجلة” وشخصيّة المؤلّفة نفسها التباس شديد، إذ تخبر دجلة طبيبها بأنّها بصدد تأليف رواية تحمل عنوان “العراء”. وغسّان سلمان، الشاعر الفلسطينيّ في العالم التخييليّ يتكفّل في النصّ برواية وقائع التهجير من لبنان إلى تونس وينقل ما وقع على متن الباخرة لبعض الشخصيّات الفلسطينيّة المرجعيّة أمثال هدى شعلان . أمّا أبو جهاد الشخصيّة التاريخيّة المرجعيّة فيتحاور في الرواية مع غسّان سلمان الشخصيّة التخييليّة في سبل المقاومة بعد الترحيل وافتكاك السلاح. يقول غسّان يائسا :”كيف نقاوم هذا السرطان الرجيم وقد افتكّوا منّا السلاح ؟” فيجبيه أبو جهاد :”أنت ! أنت أيّها الشاعر غصن الزيتون ! الكلمة التي ستظلّ أصلها ثابت وفرعها في السماء ! فاحمل سلاحك يا غسّان في كلّ ملجأ- مهما نأى- الكلمة لك سلاح !”. فيعلّق غسّان على كلامه معلما إياه أنّه قد سمع هذه العبارة نفسها “في العاصمة التونسيّة ودجلة على منصّة الشهادة تعترف في إحدى الندوات :”الكلمة سلاحي ! ” .
إنّ التداخل بين التخييليّ والمرجعيّ يجعل الواقع رجراجا هشّا، تلتبس فيه الحدود بين ما ينتمي إلى الأدب وما ينتمي إلى التاريخ. هذا التداخل أيضا هو الوسيلة الفنيّة التي مكّنت المؤلفة من تحقيق غايتين في وقت واحد هما : توظيف الكتابة للشهادة على العصر والدفاع عن أمّ القضايا العربيّة بل الإنسانيّة قاطبة من جهة، والتمسّك من جهة ثانية بمهمّة الكتابة السرديّة الأولى، مهمّة خلق عالم تخييليّ قد يكون أكثر صدقا من العالم المرجعيّ نفسه. فالكتابة لا تصف العالم كما يقول “رامبو” بل تعيد خلقه من جديد.
2 – ثنائيّة السرد :
تداول على السرد راويان : دجلة العامريّ وغسّان سلمان. وهما الاثنان راويان مشاركان في الأحداث. وقد تكّفلت دجلة برواية أطوار قصّتها مع مرض السرطان إلى آخر لحظة في حياتها بل أطلّت على لحظتي موتها ودفنها وروت شطرا ممّا وقع لها فيهما. أمّا غسّان سلمان فتكفّل بسرد شذرات من حياته الأولى السّابقة لقدومه إلى بنزرت (الطفولة في حيفا /التهجير الأوّل في 1948 / الحصار في بيروت)، وأطلع دجلة على ظروف الترحيل إلى بنزرت، ووصف مشاعره الشخصيّة لحظة رؤية ميناء بنزرت والجموع المستقبلة. وقد اضطلع غسّان كذلك بسرد أطوار الغارة الإسرائيليّة على حمام الشطّ ووصف وصفا دقيقا آثار الدمار الذي لحق مركز الإعلام الفلسطينيّ والمباني المحيطة به.
2-1 : لئن كان السرد ثنائيّا من حيث الراوي، فإنّه في الحقيقة واحد من حيث طبيعة السرد ودرجته. ذلك أنّ كلا الراويين اعتمد سردا بضمير المتكلّم وكان مشاركا في الأحداث التي يرويها. فجاءت الرؤية السرديّة داخليّة انطلق فيها كلّ راو من بؤرته الذاتيّة ومزج بين سرد الأحداث وسرد تفاعله الذاتي مع الأحداث. ومن شأن ذلك اقتناع القارئ اقتناعا لا ريب فيه بأنّ السرد الذاتيّ هو النمط السرديّ المناسب لأحداث رواية “العراء” فعلا، وبأنّ ما روته دجلة عن حياتها وتجربتها مع المرض والكتابة والموت ما كان يمكن لغسّان سلمان أو راو مجهول أن يرويه، وبأنّ ما رواه غسّان سلمان عن طفولته في حيفا وعن حصار بيروت والترحيل إلى بنزرت ما كان يمكن لدجلة أو راو مجهول أن يرويه.
وعلى هذا النحو يتّضح لنا استنتاج طريف مفاده أنّ اختيار المؤلّفة نمط السرد الذاتيّ قد مكّنها من أن تحقّق قدرا كبيرا من الموضوعيّة أنقذ نصّها من المأزق الذي وقعت فيه أغلب النصوص الروائيّة التونسيّة التي اتخذت القضيّة الفلسطينية موضوعا لها. فهذه النصوص غالبا ما يتلقّاها القارئ بشيء من الارتياب والشكّ لجزمه مسبقا بصعوبة أن يكتب كاتب غير فلسطيني ولم يعايش الفلسطينيّين غن قرب رواية عن القضيّة الفلسطينيّة. إنّ توكيل “بنت البحر” غسّان سلمان الشاعر الفلسطينيّ في العالم التخييليّ، مهمّة سرد كلّ ما تعلّق في الرواية بفلسطين والفلسطينييّن قد ضمن التبعيد بين الراوية الأولى، البطلة التونسيّة دجلة، والأحداث التي ما كان لها أن تعيشها من الداخل، ويسّر تصديق القارئ لما يروى له من تفاصيل عن جزء من التغريبة الفلسطينيّة في الفترة الممتدّة من 1982 إلى 1988، إذ تلقّى هذه التفاصيل من فلسطينيّ عاش الأحداث من الداخل ولن يعير القارئ بالا كبيرا لحقيقة أنّ هذا الفلسطينيّ نفسه هو ابن عالم التخييل وصنيعة “بنت البحر”. والأهمّ من كلّ ذلك أنّ المنظور الذاتيّ يمنح السرد عمقا نفسيّا يدعم القيمة الجماليّة الإيحائيّة للنصّ الروائيّ ويبتعد بـ”العراء” عن نبرة التقرير الخارجيّ التي غلبت على أغلب الكتابات السرديّة التونسيّة التي تصدّت للحديث عن القضيّة الفلسطينيّة.
لننظر في هذه الفقرات تدلالا على ما ذكرنا وفيها يروي غسان سلمان ظروف الترحيل من بيروت :”صفّرت السفينة نعيبا طويلا غامرا انتشر صداه في كلّ الآفاق. وارتفعت أيادي الشباب الملوّحة للمودّعين وقد فكّ الياطر ومخرت “السول فرين” عباب الماء. وظلّت العيون المكبّرة على وجه المبعوث الأمريكيّ في أعلى المبنى لا تسقط متابعة التهجير الجديد حتّى الغياب. وخلف ارتعاشة دمع مكابر، اختفت بيروت وابتلعها الماء.
كان البحر لا مباليا، مغيظا، قاسيا، يضرب جنبات الباخرة، يضرب أحشاءنا، يأخذنا الدوار… يقطعنا الأسى والغضب، ونحن نبصر البوارج الأمريكية تراقبنا من بعيد، تصرّ على عطشنا، تحرمنا مؤونة التزّود بالماء من جزيرة كريت التي كانت تنتظر المقاتلين الذين ظلّوا في الحصار صامدين، يدافعون عن عاصمة أحرقها الجنون، ليتعاون المتواطئون على تهجيرهم من جديد، من بيروت إلى جزيرة قبرص إلى أوّل مرفأ تونسيّ. في فجر اليوم السابع، السبت 28 أغسطس 1982 أطلّت الأرض ولاحت من بعيد البيوت البيضاء تحت سماء شديدة الصفاء، توحى بالهدوء الذي يغمر المدينة، هدوء المنافي، تختار لنا بذكاء ماكر، لتساعدنا على ابتلاع بذور النسيان.
تجمّع الرفاق على سطح السفينة، أطلّت بينهم هدى شعلان تحمل على كتفيها أحد الأطفال من أشبال الثوار القادمين مع المقاتلين، عيناها تفيضان دموعا وهي ترفع الرأس إلى السماء، إلى أسراب الطائرات التونسيّة القادمة تحلّق فوقنا، مرحّبة بالفلسطينيّين المرحّلين سائلة :”أين كانت طائرات العرب، في جحيم بيروت” .
3 – رمزيّة دجلة :
شخصيّة “دجلة” العامريّ” شخصيّة روائيّة متطوّرة نامية متحوّلة. وقد اتّخذ هذا التطوّر منحى متصاعدا أخذت فيه دجلة تتخلّص تدريجيّا حسب انتشار مرض السرطان في جسدها، من أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة والجسديّة لتتمحّض وجودا رمزيّا خالصا تتماهى فيه مع الأرض العربيّة السليبة.
3-1- والحقّ أنّ الهويّة الرمزيّة كائنة في بطلة الروائة متأصّلة فيها بدءا من اسمها. فـ”دجلة” اسم يحيل على أشهر الأنهار العربيّة وموطن حضارة العراق. وقد سميّ نهر العراق بـ”دجلة” حسب “لسان العرب” لأنّه “يغطّي الأرض بمائه” والجذر اللغويّ “دجل” يحمل دلالة التغطية والفيض . وكذلك كانت دجلة في الرواية تفيض على الآخرين وتشملهم بعطفها وحبّها. أمّا كنية البطلة “العامريّ” فتحيل على العراقة والأصالة العربيّة وتذكّر بليلى العامريّ حبيبة قيس بن الملوّح والحبّ المستحيل الذي لا ينتهي إلاّ بإفناء صاحبه جنونا وتشرّدا في الوديان أو نحولا وذبولا للجسد. وكذلك كانت دجلة في الرواية عاشقة ولهى بانتمائها العربيّ الضارب في أعماق الجغرافيا والتاريخ، وكذلك كان حبّها للشاعر الفسلطينيّ حبّا مستحيلا لا دواء له إلاّ بالداء الأكبر : الفراق ثمّ الموت.
هذه الكنية تذكّر كذلك ببطلة أخرى من أبطال الرواية العربيّة سليلة العالم التخييليّ هي “نجوى العامريّ”، بطلة رواية “عالم بلا خرائط” تلك المرأة اللغز، واهبة الحياة والموت في وقت واحد، المرأة التي اتّسعت دلالتها في رواية عبد الرحمان منيف وجبرا ابراهيم جبرا عن حدود الجسد والأنثى والعائلة والولادة والوفاة لترتقي إلى مصاف الرمز، رمز الأرض والوطن.
إنّ لاسم البطلة إذن طاقة إيحائيّة تحضّ القارئ منذ بداية الرواية على أن ينتبه إلى أنّه ليس إزاء شخصيّة روائيّة تنحصر دلالتها في حدود العالم التخييلي، بل هو إزاء شخصيّة رمزيّة تفيض دلالتها على كينونتها التخييليّة لتتّصل بأنساق التاريخ والحضارة وتغدو تكثيفا رمزيا للوطن والأرض العربيين.
3-2 : مصدر الترميز الثاني في شخصيّة دجلة العامري هو انتماؤها إلى مدينة بنزرت، الميناء الذي حطّ عنده غسّان سلمان صحبة رفاقه من الفلسطينيّين. فهذا الانتماء يوحي بالتماهي بين البطلة والمدينة التي احتضنت الفلسطينييّن ويضفي عليها دلالة الميناء المحطّة. بل لقد أصحبت هي نفسها المرفأ في وعي غسّان سلمان، إذ قال مرّة واصفا إحساسه لحظة عودته ثانية إلى بنزرت زائرا لها، مشاركا في جنازتها :”بدت المدينة من بعيد، وقد خفت المطر، ملتحفة ببياض مبلّل صامت حزين. وأطلّ البحر !. البحر المقيت.. الحبيب !. حياتي… وموتي… وذاكرتي ! البحر الذي رماني يوما مشعثا مقهورا إلى ساحلك ! ها هو يبدو، مربدا، صاخبا بلا سفن ولا بواخر، غير أشرعة الريح وتكسرات الموج وذاكرة الغربة والنهايات. وها أنت تعيدينني هذا الصباح إلى مرفئي القرطاجنّي، إلى المدينة التي ضمّدت جراحي ذات تهجير، ولوّحت لي بالأيادي والأعلام، لتستقبلني الآن، شوارعها شبه الخالية، مبلّلة، كئيبة صامتة.
ما كنت أدري أنّي إلى هنا سأعود، لا لاجئا يتوقّف في مرفأ الذكرى ويريح أقدامه التي أنهكها الترحال والغربة وقطعت أصابعها الحروب، بل عاشقا متلهّفا، عائدا ليراك أنت التي فرشت لي على هذا المرفأ سجّادك المسدّى بخيوط علّيسة الهاربة من صور، لأصلّي لك، ولأستلم على أراضيك، بين عتيق صخور مرفئك، رسالتك الأخيرة لي قبل الرحيل” .
3-3 : ساهم الخاتم الذي تحمله دجلة في نسج رمزيّة البطلة والمماهاة بينها وبين الأرض والوطن السليب. فهذا الخاتم الفضيّ العتيق الذي أهدتها إياه أمّها قبل وفاتها له شكل غصن زيتون ذي أوراق فضيّة صغيرة وحبّات زيتون من العنبر الأصيل. إنّ غصن الزيتون رمز فائق الدلالة على فلسطين، محمّل بإيحاءات تاريخيّة وجغرافيّة وحضاريّة ودينيّة عميقة ضاربة بجذورها في الذاكرة الفلسطينيّة والعربيّة عامّة تمتدّ بعيدا جدّا إلى السيّد المسيح، إيحاءات منحها الشعراء الفلسطينيّون وقادة النضال الفلسطينيّ لا سيّما ياسر عرفات حضورا رمزيّا قويّا جعل غصن الزيتون والقضيّة الفلسطينيّة توأمين لا ينفصلان. لذلك كان خاتم دجلة أوّل شيء رآه فيها غسّان سلمان وجذبه إليها. فصاح لدى لقائه بها في المرّة الأولى :”من أين لك حليّ أميّ يا تونسيّتي الرائعة ؟” ولم تلبث رمزيّة الخاتم أن اتّسعت لتشمل الأرض والوطن :”وأنحنى لألثم يدك الرشيقة الناعمة، فيجمّع عنبر زيتون خاتمك الفضيّ العتيق كلّ أحزان الأرض في وجهي ويرميني من جديد إلى غربتي.”
3-4 : لاشكّ أنّ أهمّ مصدر ترميزي في شخصيّة دجلة هو جسدها وتهاويه التدريجي بدءا من سرطان الثدي فسرطان الرحم، إلى عجزه تماما ثمّ موته.
بموازاة سرد أطوار هذه الرحلة التي شقّها الجسد نحو الفناء تابع السرد أطوار رحلة أخرى شقّتها الأرض العربيّة نحو الخراب واليباب منذ سقوط غرناطة فحملة التهجير الأولى للفلسطينيّين عام 1948، إلى سقوط العراق وتنامي المستوطنات، مرورا بحملات التهجير والمذابح التي راح ضحيتها الفلسطينيون والعرب في 1948و1967 و1976 و1982.
ولا يجد القارئ أيّ صعوبة لإدراك لوظيفة الترميزيّة التي يضطلع بها جسد البطلة. فكثيرا ما سمّت نفسها بالأرض والوطن وكثيرا ما سمّاها غسّان بذلك أيضا. تقول سلمى لدجلة وهي في أوهن حالاتها :”لا تشغلي بالك بالدنيا ! اتركيها لمصائبها (..) يكفيك ما أنت فيه”. فتجيبها :”ولكنّ الدنيا فيّ يا سلمى ! … الدنيا بعواصفها وأنوائها… بجرذانها وخرابها تسكن فيّ ! هل سمعتني سلمى ؟. في قسماتها المشفقة، في لمعة عينيها النديّتين، شاهدتني لوحة ثانية لأرض تضيع فيها المعالم… استأصلوا منها ثدي الأمومة… سرقوا حليب الرضيع… نهشوا الرحم… وها هم يزحفون إلى العظم والقلب ! ”
إنّ بتر ثدي دجلة بعد استفحال السرطان فيه يساوي رمزيّا حرمان الطفل من أمّه والفصل بين الفلسطينيّ وأمّه الأرض. أمّا بتر الرحم فهو المعادل الرمزيّ لحلم المستوطنين الصهاينة بالقضاء على النسل الفلسطيني. ولئن سارت أحداث الرواية نحو إفناء الجسد والإيحاء بأنّ الفلسطيني قد فقد الأم وبُتِر رحم الأرض التي أنجبته، فإنّ المؤلّفة مستعينة بالفانتاستيكي قد انتصرت رمزيّا للحياة على الموت وللمجرّد على المحسوس. فجعلت الجسد يرتفع روحا محلّقة في السماء تسخر من مشيّعي دجلة إلى مثواها الأخير ومن دافني جسدها في التراب. وكان قد سبق لدجلة أن استبقت مسار الأحداث وأعلنت لغسّان سلمان على لسان طاغور خلودها ورفضها الموت الجسديّ :”أنا أكبر من الموت وسأعلن ذلك عندما أغادر الدنيا” . إنّ ارتفاع دجلة هو الصورة القصوى لتخلّصها من الهويّة الأنثويّة الجسديّة وتمحّضها قيمة رمزيّة أوسع وأسمى من حدود الجسد، تتماهى فيها دجلة مرّة أخرى مع الأرض التي انتهكت واستبيحت واغتصبت، لكنّها رغم ذلك استطاعت أن ترتفع عن قاتليها وتسمو فكرة ومثالا أعلى لا قدرة للقتلة عليه، يسبح في عالم الخلود وتسبّح بآلائه الفنون جيمعا من أدب وموسيقى ورسم.
تتلاقى كلّ الضفائر الرمزيّة في شخصيّة دجلة لتجعل منها رديفا للوطن السليب. وفي هذا السياق فقط يمكن للقارئ أن يفهم الطلب الغريب الذي تقدّمت بها دجلة إلى زوجها حسام حين رجته وألحّت عليه في الرجاء أن يطلّقها ويتزوّج أختها سلمى، على أن تظلّ بجوارهما في البيت نفسه. لقد غدت بطلة الرواية كينونة قيميّة رمزيّة أسمى من الجسد وحدوده الضيّقة المنذورة للفناء والزوال، فيها تتجمّع دلالات الوطن والحقّ والجمال. وما ممارسة دجلة فنّ الكتابة الروائيّة إلاّ دعم لهذه الدلالات ورفد لها بدلالة أخرى هي دلالة الإبداع والخلق الفنيّ. فتضحي العلاقة جدليّة بين رمزيّة الوطن ورمزيّة الكاتب. فكأنّما الكاتب لا حياة له ولا مجد ولا خلود إلاّ إذا سكن فيه الوطن، والوطن لا خلود له ولا ذكر إلاّ إذا كان له امتداد عن طريق الأدب. ولعلّ غسّان سلمان قد لخّص هذه المعاني في وصف تأثير دجلة فيه قائلا :”أكنت تدركين يوما أنّ يديك التونسيّتين قد أخذتا ترمّمان بعض انكساراتي ؟ وأنّك أصبحت أرضي وشوقي، كلّ ما فيك يضوع بزهر البرتقال والأرنج في الوطن المحتل ؟
4- سرطان الجسد/سرطان الأرض :
4-1- تقيم الرواية علاقة استعاريّة بين حدثين يبدوان في الظاهر وحسب المقاييس المنطقيّة والطبيعيّة متباينين ومن جنسين مختلفين أشدّ الاختلاف هما : استشراء السرطان في جسد البطلة، واستشراء الاحتلال الاسرائيليّ في أرض فلسطين.
لكنّ قيام الرواية على التنافذ بين الذاتي والموضوعيّ والاندغام بين البطلة والأرض مّكن دجلة من أن تسمّي ما يحدث بفلسطين “السرطان”، وما يحدث في جسدها “خراب الأرض”. وقد اضطلع هذا التماهي بين السرطان والاحتلال بمهمّة تقوية البعد الرمزيّ في بنية الرواية من جهة، وتمكين المؤلّفة من إدانة ما يقع في فلسطين دون السقوط في المباشرة والخطاب الوعظيّ التعليميّ من جهة ثانية.
4-2- اشترك الراويان الاثنان دجلة وغسّان في وصف ما يحدث في فلسطين بالسرطان. لكنّهما اختلفا في المنظور والتأويل. فدجلة كانت تقرن دائما الحديث عن سرطان الاحتلال بالحديث عن سرطان جسدها، ودائما ما كان يعيدها هذا إلى ذاك مقيمة بينهما علاقة مرآويّة جدليّة لا فصام لطرف من طرفيها عن الآخر. ونسُوق على سبيل المثال هذا الشاهد :”عدت بلا جواب أتصفّح الأوراق الماضية : الشرق الممزّق يتآكله السرطان، يسقط إكليل الفرح، يقتلع بذور الشجر، يدمّر معمار مدن الشرق المتوالية من حيفا إلى بيروت. من القنيطرة إلى قرطاج (…)”. توهمنا الراوية في بداية هذا الشاهد أنّها تتحدّث عن الشرق العربيّ ومدنه المتهاوية بفعل السرطان الاسرائيليّ، لكنّها لا تعتم أن تنتقل بنا بغتة من هذا المنظور الواسع جدّا إلى منظور آخر ضيّق متمركز حول الذات، ومن الأرض العربيّة الشاسعة إلى صدر البطلة :”يئزّ الوجع بغتة في الصدر لحركة لا إراديّة متوتّرة يحاكم قلمي الثائر : هذه هي الأرض ! هذا الجسد مدينتك التي لا مهرب منها… مدينتك الورقيّة اختراع زائل وجدران وهميّة آيلة للسقوط”.
أمّا غسّان فكان يستعمل عبارة “السرطان” لوصف ما يقع لفلسطين والفلسطينييّن ويطاردهم من مهجر إلى مهجر ومن منفى إلى منفى، انطلاقا من منظور خارجيّ. وكان استعماله العبارة استعمالا على سبيل المجاز، وإن كان المجاز الأكثر تدلالا على الحقيقة. يقول غسّان لأبي جهاد :”ها هو سجّاد عليّسة يؤوينا في استراحة الماضي الطريد ولكنّ مخالب السرطان تشقّ السجّاد مقتحمة البحار والقارات والسماوات، تقطّع سداه محمّلة بأحدث عتاد وأدقّه وأمكره لقتلك. فكيف تقاوم يا قائد جيل الثوار ؟” .
إنّ اعتماد دجلة المنظور الداخليّ في تعاملها مع السرطانين : سرطان الجسد وسرطان الأرض، هو الذي مكّنها من أن تقرأ علاقتها المستحيلة بغسّان قراءة تتجاوز الفرديّ إلى الجماعيّ والحيني إلى التاريخيّ. فحكمت على نفسها وغسّان بأنّهما ضحيّتا أخطبوط سرطانيّ واحد وإن اتّخذ شكلين مختلفين : “أكتشف أنّي أفتقد غسّان أمام وحدتي الهائلة وحنين شجيّ يهفو إليه… أشتاق إلى غسّان، الشاعر المقاتل، المرحّل إلى أرضي، المفترَس الأصابع في ملجئي الأمين، وأشعر أنّي وإياه بين أصابع الأخطبوط السرطاني الرهيب شريكان في الفقد”.
4-3- اُعتمدت تفنيتان سرديّتان لإنشاء العلاقة الاستعاريّة بين السرطان الجسديّ والسرطان الاسرائيليّ هما : التزامن والتعاقب الخطي.
قام التزامن على الجمع في وقت واحد بين سرد ما يفعله مشرط الجرّاح في جسد دجلة من استئصال للأورام وسرد ما تفعله الجرّافات والمجنزرات الصهيونيّة من بتر لمعالم الأرض الفلسطينيّة . أمّا التعاقب الخطّي فجسّده متابعة الراوية أطوار استفحال السرطان الإسرائيليّ في فلسطين والوطن العربيّ عامّة بدءا من الترحيل في 1948 والهجوم على المسجد الأقصى في 1969 إلى حصار بيروت. وقد يأخذ هذا التعاقب مدى أبعد في الزمن حين يتماهى الاحتلال الاسرائيلي مع الاحتلال الأوروبيّ لأمريكا، ويتساوى تهجير الفلسطينيين مع تهجير الهنود الحمر، وحين تعدو هزائم العرب الحديثة امتدادا لهزيمتهم في الأندلس.
5 – الكلمة سلاح في زمن افتكاك السلاح :
ما السبيل إلى مقاومة السرطان والجسد هشّ وحيلة الأطبّاء قاصرة ؟ وما السبيل إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ وقد افتكّ السلاح وانتشر السرطان الإسرائيليّ ينهش الأرض العربيّة ؟
ذانك هما السؤالان اللذان استقطبا الرواية من بدايتها إلى خاتمتها وقدّمت عنهما الراوية ومن خلفها المؤلّفة نفسها جوابا واحدا لم تتزحزحا عنه وهو :”الكلمة سلاحي”.
الكلمة سلاح دجلة في مقاومة السرطان فعمدت وهي في أوج مرضها إلى الكتابة ومسابقة الزمن حتّى تتمّ روايتها قبل أن يتمّ المرض روايته :”أنهض- رغما عنّي – أمسك سلاحي من جديد، وأعود أكتب وصرختي الهادرة ترتفع في وجه السرطان المفترس الكوكب الأرضيّ. هكذا عدت أستقوي على ضعفي. الحرف يطرق بعنف باب الورق ناريا حارقا، ينتشر على مساحات البياض مضيئا الكوكب البائس، مخدّرا ذاكرة الجسد” .
ويصل إيمان الراوية بجدوى الكلمة سلاحا ومجازا إلى تحدّى الموت، إلى حدّ اعتبار الكلمة دينا لها. فها هي تعلّق على جائزة أدبيّة نالتها فتقول :”تؤرّخ ليوم التتويج في أرقى مسارح تونس شاهدة على صدق ديني. أليست الكلمات هي الخلاّقة الباقية ؟” .
هذا السلاح نفسه لا تراه الراوية سلاح ذاتها وحدها وسبيلها إلى الخلاص الفرديّ، بل تراه سلاح المجموعة أيضا، وسلاح الثوّار الذين افتكّ منهم السلاح، وسبيل الوطن إلى الصمود والنجاة من الخراب. وقد حاولت في هذا السياق أن تقنع غسّان سلمان في لحظات شكّه ويأسه من الشعر والكتابة بقيمة الكلمة في المعركة الأخيرة :”ألسنا في كتابتنا نبحث عن الحقّ في أعماقنا ؟ عن النور الذي لا نجده على الأرض ونظلّ نبحث عنه وحيدين في أغوار الذات، علّنا نقطف منه قبسا يضيء دجى الحاضر الإنسانيّ المنهار ؟ .
وقد دعمت المؤلّفة هذا الموقف باستعمال حيلة سرديّة ذات وظيفة حجاجيّة تمثّلت في إجراء حوار بين أبي جهاد الشخصية المرجعيّة وغسّان سلمان، السخصيّة التخييليّة، وقف فيه أبو جهاد إلى جانب دجلة وحضّ فيه غسّان على أن يلجأ إلى سلاحه الحقيقيّ : سلاح الكلمة والأدب.
ولعلّ أبرز مظاهر الانتصار في الرواية للكلمة والأدب كما سبق وبيّنا، ارتقاء دجلة بعد موتها إلى عالم السماء. ففي ذلك ترميز لعلويّة النصّ الأدبيّ وخلوده ولقدرة الكتابة على تخليد القضيّة والارتفاع بها أعلى من السرطان والموت والقمع. ولعلّ في التاريخ الفلسطيني المعاصر برهانا على صحّة رأي بطلة رواية “العراء”. أفلم تكن أقاصيص غسّان كنفاني في خمسينيّات القرن العشرين أخطر بندقيّة توجّه إلى الكيان الغاصب ؟ أو لم يقل مناحيم بيغين يوم اغتيل غسّان كنفاني :”اليوم تخلّصت إسرائيل من كتيبة جيش بأكملها” ؟