بقلم- باسم توفيق
في أوقات كثيرة وخصوصا في اطار النقد يصيبنا الدوار من كثرة المدارس والتقسيمات والجداول الزمنية، وعلى الرغم من هذه الحالة من الدوار والملل التي تصيبنا من محاولة تصنيف وتبويب المدارس الفنية وتابعيها من الفنانين فإننا على الرغم من ذلك نخفق تماما في الخروج من هذا الاطار المجهد والمدرسي في نفس الوقت والسبب في ذلك أن هناك أنواعا كثيرة من الفنانين من حيث انتمائهم أو عدم انتمائهم للمدارس الفنية.
فمنهم من بدأ مع مدرسة وانتهى مع مدرسة اخرى ومنهم من تمرد على مدرسته وسار في اتجاه حر، ومنهم من مر بعدة تطورات مدرسية وتقلب في عدة مدارس لكن منهم أيضا من ظل مخلصا لمدرسته الفنية اخلاصا شديدا، وهذا ما يجعل من هذا النوع متسقا مع ذاته بشكل كبير وتصبح أعمالة أيقونات في عصره، وليس معنى ذلك أننا نرفض أن يكون للفنان مدرسته الخاصة التي يصل إليها بعد عناء التجريب على العكس تماما لكننا ايضا نثمن جهد من سعوا لاستكمال منجزات مدرسة ما والكلام هنا عن المدارس التي أثرت في تاريخ الفن بالإيجاب حيث يوجد العديد من المدارس الهدامة التي أثرت سلبا في تاريخ الفن، على أية حال فإن الحديث عن حركات الهدم والتقويض في تاريخ الفن التشكيلي يطول وليس مجاله هنا.
نعرف أن مسألة الإكاديمية هي مسألة شغلت العديد من النقاد ومن قبلهم الفنانين أصحاب الرؤية المنظمة للفن التشكيلي والذين يعتبرون أنه ليس محضا انتاجا جميلا يزين حياتنا ويثري التجربة البصرية للمتلقي، بل يعتبرونه علما منظما يجب أن يكون في اطاره الصحيح حتى تتواصل أجيال الفنانين معا في طقس منظم لإنتاج الفن ومنذ أن أقام أفلاطون أكاديميته وقرر أن يكون للعلم دراسة ممنهجة ومنظمة سعت العديد من المجالات لأن تستكمل فكرة أفلاطون، فأصبحت الأكاديميات هي تلك الأماكن التي يدرس فيها فكرا ما بشكل منظما وقد يمنح شهادة أو إجازة لمن درس أو استكمل تدريبها بها وعلينا أن نعترف أن مسألة الأكاديميات في الفن التشكيلي قد تأخرت نوعا ما حتى أننا لم نعرف أن هناك أكاديميات منظمة لدراسة الفن التشكيلي قبل العصر الميديتشي وبالتحديد في عصر كوزيمو دي ميديتشي الحاكم الفلورنسي الذي ينسب إليه جزء كبير من عصر التنوير الإيطالي وحيث شجع الفنانين والأدباء والمهندسين على الابداع بعيدا عن تحزلق البابوية وعتوها التي كانت فلورنسا بمنأى عنه نوعا ما فنشأ ذلك العصر الذهبي الذي يدين به العالم لفلورنسا مهد عصر النهضة والحركات الفنية الكبيرة في التاريخ والحقيقة أن حديثنا عن بدايات الأكاديمية، ومدرسة الأكاديمية الكلاسيكية بالتحديد هي مقدمة لابد منها لندخل لدنيا فنانا اليوم وهو الايطالي النمساوي الأشهر يوجيني دي بلاس والذي يعرف بأحد أهم أقطاب الاكاديمية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على حد سواء بل ويلقب دائما بكاتب فينيسيا المصور، لأنه والحق يقال لم يولد فنان استطاع أن يصور الحياة في فينسيا ووجوه فينسيا بهذا الاتقان مثل دي بلاس حتى أنه يتخذ السينمائيين والمؤرخين أعمالة مرجعا وثائقيا عن الحياة في فلورنسا حينما يقدمون على عمل فني يتحدث عن فلورنسا، ولأنه كان من رواد هذه المدرسة أي الأكاديمية الكلاسيكية فإنه علينا أن نعطي اضاءة على هذه المدرسة حتى نستطيع الحديث عن أعماله. بدأت الأكاديمية في الفن التشكيلي بالشكل المتعارف عليه على يد الناقد والمعلم الكبير جورجيو فاساراي في فلورنسا عام 1563 بدعم وتكليف من كوزيمو دي ميديتشي فأسس أكاديمية الفن والرسم – أكاديميا أي كومبانيا ديل آرتي ديل ديزينو – حيث قام بوضع مناهج لتدريس الفن والتصميم مثل مناهج التشريح والهندسة والرياضيات، وعلينا أن نفرق بين الأكاديميات والمحارف لأن البعض قد يعتقد أن محارف الفن كانت أكاديميات وحيث سبقت أكاديمية فاساراي، بالطبع المحارف مختلفة فهي تعلم التقنيات المهارية وكيفية تشغيل الخامات فنيا مثل محرف فيروكيو وغيرة لكن الأكاديميات تقوم بتدريس الفن كعلم منظم له مقاييسه وأسلوبه، بعد أكاديمية فاساراي توالت الأكاديميات فجاءت أكاديمية روما المسماة اكاديمية سانت لوكا الشهيرة ثم أكاديمية بولونيا التي أسسها الفنان الكبير أنيبالي كاراتشي دون أي دعم رسمي لكنها استمرت وأخرجت أجيالا لعالم الفن.
وفي فرنسا استعارت المؤسسات الفرنسية فكرة الأكاديميات الفنية فأنشأت الأكاديمية الملكية في باريس والتي أخرجت لنا عظماء رأسوها مثل آنجر وبوسان وغيرهم كثيرين وهكذا، وبعد ذلك انتشرت الأكاديميات في جميع أنحاء المعمورة وظلت التقاليد الأكاديمية أو الطقوس المدرسية للأكاديميات تنتقل من جيل لجيل ومن مكان لمكان ومن ثم نستطيع أن نسميها الأكاديمية الكلاسيكية والتي كما قلنا تهتم بتلقين أصول الفن من خلال مقاييس علمية منظمه فيها دراسة التشريح والهندسة والرياضيات وفلسفة الفن فيكون الفنان بعد تخرجه منها قادرا على أن يصبح فنانا واعيا يقدم الصورة الحقيقة للفن الكلاسيكي.
ويعتبر فنان اليوم الفنان لكبير والمخضرم يوجيني دي بلاس هو أحد رواد هذه المدرسة ولا عجب في ذلك فلقد كان والده النمساوي الأصل كارل دي بلاس أحد أساتذة الفن الأكاديميين في روما ثم انتقل إلى فينسيا وأصبح أحد أهم أساتذة الأكاديمية الفنية في فينسيا وكان هو بالطبع أستاذه الأول.
تتبدى التقاليد الأكاديمية الكلاسيكية بقوة في اعمال يوجيني دي بلاس فنجد أنه يتبع القاعدة التشريحية الأكثر منطقية بحيث يصل لحالة متسقة من مقاييس الجسد – وخصوصا الأنثوي – فهو الجسد الأنثوي الأكثر تناسقا من حيث انه يميل إلى الرشاقة دون النحافة وهو الأكثر انتشارا بين نساء وبنات فينسيا وخصوصا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي كان اهم ملاعب يوجيني الزمنية وعلينا ان نميز موضوعات ومفردات متكررة في أعمال يوجيني بل لعلنا نقول أن اعماله لا تخلو منها وهي أولا التركيز على العنصر الأنثوي في فئة عمرية معينة. فمعظم أعمال يوجيني بطلاتها فتيات لم يتعد عمرهن الخامسة والعشرين وهم في حالة رشاقة كما قلنا قياسية وهذه احدى سمات المدرسة الكلاسيكي الأكاديمية التي تعنى كثيرا بالتشريح المثالي للمرأة.
ونجد أيضا أن الحوائط احدى المفردات الجمالية في أعمال يوجيني وهي كلها الحوائط الفينيسية ذات الطوبات الحمراء التي انكشف جزء من غطائها بفعل جو فينسيا الرطب التي كما نعرف طبيعته الجغرافية والمناخية عبارة عن أرخبيل ومجموعة جزر صغيرة، ايضا علينا أن نقول دون أي مباهاه نقدية ان ملابس شخصيات يوجيني هي الأكثر فينسية بين معاصريه، فهي تعبر عن أزياء الطبقة العامة وبدقة وحيث نستطيع ان نقول أيضا ان يوجيني اختار لأعماله طبقة واحدة دون أخرى وهي طبقة العامة أو البوبيليا وهي تحت الطبقة المتوسطة وتمثل البائعين والحرفيين والمزارعين وغيرهم من أصحاب المهن البسيطة مما يعطي لاعماله مصداقية وبهجة وهذا ما جعل يوجيني مدرسة بحد ذاتها في هذا الصدد حيث اعتمد الفنانين الأقل شهرة أسلوبه بشكل تكراري مع بعض التحوير حتى يحظوا بنفس الاقبال التجاري الذي حظي به فلقد كان يوجيني ولا زال على رؤوس القوائم في الفنانين الأكثر مبيعا وأصبح هناك في فن الرسم التجاري والأتيليهات ما يعرف بـ يوجيني ستايل وهو طراز من اللوحات يمثل فتيات فينسيا خصيصا بملابسهم التقليدية كما يصور مواقف الغزل الذي اعتاد أن يصورها يوجيني في أعماله والتي منها على سبيل المثال لوحة النجار الذي يغازل فتاه فينسية كما يصور هذا الأسلوب مواقف الحياة اليومية وبائعات الفاكهة وحاملات الماء الفينسيين الذي تخصص يوجيني في تصويرهن.
هناك في أعمال يوجيني الحس الاستشراقي والذي ظهر في أسلوب تخطيط اللوحة وخصوصا تلك اللوحات التي تضم المجموعات مثل النساء يتسامرن مع الصبي بائع الفاكهة وهذا الحس يظهر في أمور كثيرة أولا: زوايا المشهد والتشكيلي وفكرته، وثانيا العوالم اللونية والأداء الحركي ولا عجب أن الكثير من رواد هذه المدرسة كانوا من المستشرقين أو من ملهمي حقبة الاستشراق أيضا حتى أن العديد من النقاد يدخلون راسمي بعض المناطق في حوض البحر المتوسط تحت بند فنانين الاستشراق حتى ولم تكن موضوعاتهم استشرقا خالصا.
تتميز أعمال يوجيني دي بلاس بخلفيات لونية فاتحة ويستخدم غالبا الألوان الباردة مع نزوع ظاهر لمستوى الخفة وعدم التكثيف واصرار على الدرجات اللونية الفاتحة – الأزرق درجاته والأصفر بدرجاته – ويميل ايضا إلى عدم الافراط في الزخارف مع حضور كبير للعمارة في أعمالة وهذا ابلطبع أحد سمات المدرسة الكلاسيكي الأكاديمية التي تهتم جدا بالهندسة والرياضيات. ولد يوجيني دي بلاس في يوليو عام 1843 في البانو بالقرب من روما وكان والداه نمساويين عمل والده كارل دي بلاس رساما ومعلما أكاديميا في روما ثم انتقلا إلى فينسيا حيث أصبح والده من أبرز معلمي الأكاديمية في فينسيا وتتلمذ هو على يديه. قام يوجيني بأعمال كثيرة زينت معظم المتاحف والأماكن الكبيرة في فينسيا كما رسم مجموعة كبيرة من البورتريهات التي تشبه كثيرا بورتريهات الأكاديمية الفرنسية من حيث الأسلوب لأنهم يتشاركون في نفس السمات المدرسية.
توفى يوجيني في فينسيا في فبراير عام 1932.