بروفيسور د. اياد الحسيني
ربما يبرز سؤال اخر مرادف للعنوان …. وهل تحتاج اللوحة الى عبقرية ؟ وما هو الدور المطلوب ان تؤديه اللوحة ؟
وهل هناك مسوغ لوجودها كاحدى الضرورات اليومية؟ هل هي ترف لا يعنى به الا فئة قليلة من البشر الذي اشبعوا كل حاجاتهم ؟ هل تعد اللوحة اليوم جزءا من منظومة الحياة كما كانت في عصور ازدهارها ؟ لماذا تباع بعض (الشخابيط ) بملايين الدولارات بينما لا يبيع رسامونا افضل اعمالهم الا بثمن بخس؟ كثير من الاسئلة ساحاول الاجابة الان على اولها.
كتبت مرة بان اللوحة الفنية بالنسبة للحمال هي مجرد حاجة خف وزنها او ثقل يفكر الحمال كيف يحملها وبالنسبة للنجار أربع قطع خشبية يغلفها قماش وبالنسبة للصباغ مجموعة اصباغ لوثت القماش وبالنسبة للفنان موقف من الحياة يعبر عن لحظات الالق والفكر والجمال اما بالنسبة للمتحف فهي عمل خلاق يوثق مشاهد لأرقى ثمار الحضارة الإنسانية وبالتأكيد فان اللوحة بالنسبة للبعض مجرد شخابيط ثمنها خرافي لشخص مغرور ويشتريها ناس فقدوا عقولهم.
وحقيقة اللوحة الفنية بالنسبة للفنان هي خلاصة لنتاج فكري وروحي يتسم بمهارات عالية تثير الاعجاب والمتعة والتقدير ولكي تصل الى هذه المرحلة وخاصة الان في التيارات الحديثة او ما بعدها والتي احالت اللوحة الى النتاج الفكري الخلاق والمهارات التقنية العالية والخبرات البصرية المتقدمة تحتاج الى عقل حاذق وذكاء يتقدم على المشاهدين بمراحل وليس ان يكون بمستواهم او اقل منهم ، وعموم اللوحة الفنية قد اغرقت بالاف الدراسات والبحوث على مستويات الفلسفة والجمال والفكرة والشكل والتقنية والادراك والتأويل …وما صاحبها من تيارات ومدارس وأساليب … الخ ، وتاريخ طويل يوصلنا الى نتائج غاية في التعقيد.
ولتبسيط الأمور فان التكوين و التعبير في اللوحة الفنية وقراءتها تشبه الى حد كبير كتابة جملة مفيدة وهذه الجملة صحيحة قواعديا جديدة تكوينيا بليغة انشائياً خلاقة فكريا مؤثرة في معناها ومحتواها…. اما جملة اللوحة الفنية فهي بصرية وليس كلماتية . فكيف يمكن ان نصنع كل تلك العلاقات لنصل الى رسالة – جملة – بصرية صحيحة ….؟
لاشك ان الأفكار العظيمة هي الوحيدة القادرة على إنتاج لوحة عظيمة وفق قياسات زمنها ومناخها الفكري السائد… وهي بالنتيجة تكشف عن مقدرة مبدعيها
ان تقليد أساليب الاخرين وسرقة مفرداتهم يتناقض مع فلسفة اللوحة ووجودها والعمل الفني عموما، وهي ان تكون انت في اللوحة كفنان وليس غيرك … كما ان زهو الألوان وتراكمها لاتعني شيء دون فكرة خلاقة تحتويها، كما لم يعد رسم المشاهد التي تقدر عليها الكامرة اعمالا فنية ذات قيمة.
ان اللوحة الفنية تكشف بوضوح عن مستوى أفكار صانعها وقيمتها وقدرتها على مخاطبة الوعي الإنساني في اعلى مراحله، وان الأفكار الساذجة لاتصنع الا لوحات ساذجة
ان المدراس النقدية الحديثة وخاصة مناهج ما بعد الحداثة (المناهج السياقية، الاجتماعية، النفسية، الظاهراتية، السيميائية، الخ) تجمع وبوضوح على ان فكرة الفن كمنهج وفلسفة واهداف متغيرة من زمن الى اخر، وبالتالي ما يصلح في ألامس – في سياقه التاريخي كان رائعا-ولكنه اليوم هو ليس كذلك، لان الفن عندما لا يكون جزءا من منظومة الحياة العملية يدخل المتحف مباشرة، فما هي منظومة الحياة اليوم…؟
منظومة الحياة واركانها الأساسية مختلفة من مجتمع الى اخر خاصة باختلاف القيم السائدة (صدق، وفاء، اخلاص، امانة، تكنولوجيا، استثمار، صناعة، انتاج، كذب، أزمات، فساد، جريمة، انحطاط، جهل، شعوذة، خيانة، تزوير … الخ) أي انها مجموعة العوامل التي يحيى بها الانسان في بيئته وتكون ثقافته ونمط سلوكه اليومي وعلاقاته الإنسانية والتي تخضع الى تحولات كبرى بصورة مستمرة، وهنا سنجد اختلافا كبيرا في كافة المجتمعات بين الأركان الثلاثة (الفنان والفن والمتلقي) باعتبار ان الفن نتاج لثقافة المجتمع، وبالتالي ان ما يصلح لمجتمع لن يصلح بسهولة الى مجتمع اخر…!رغم انسانية الرسالة الفنية، كما ان ثقافة الناس واحتياجاتهم في نفس المجتمع متعددة المستويات ومختلفة وباختصار شديد سنصل الى نوعين من الفن في اللوحة:
الأول: فن استهلاكي
يلبي حاجة الجمهور والسوق ويصلح كجزء من ديكور الصالات والمنازل ويثير المتعة والراحة وهو امر مشروع، وأقول استهلاكي لانه تداولي يستطيع المتلقي استيعابه والاستمتاع به، وغالبا تكون الاعمال الواقعية والتقليدية هي السائدة، وفي علم النفس الفني يقال بان المسافة النفسية بينها وبين الجمهور قليلة، مما يسهل تقبلها، وبالتالي فان الفنانين الذين يتكسبون من أعمالهم يرسمون ما تمليه عليهم العملية الاستهلاكية للجمهور…!
الثاني: فن خلاق
هو فن يعتمد القدرات الخلاقة للفنان، التي تعكس فكرة وثقافته وتجربته الذاتية – جزءا من تجربة المجتمع -وغالبا تمرده على الواقع او منظوره الخاص للحياة، وفي علم النفس الفني يقال بان المسافة النفسية بين لوحته والمتلقين مسافة واسعة وبالتالي فيها من الخصوصية ما يجعلها منعزلة وغريبة عن المجتمع والزمن الذي تنتج فيه، لا يستطيع المتلقي الاعتيادي استيعابها ولا تجد تلك الاعمال لها سوق رائجة الا في المجتمع الذي يستوعب القدرات الخلاقة ويفهم سياقها المكاني والتاريخي، وبالتالي كثير من هؤلاء الفنانين عانوا شظف العيش والحرمان، بينما بيعت أعمالهم بعد وفاتهم بملايين.
هنا تظهر الإشكالية الكبرى في سوق الفن كيف لعمل بسيط يباع بملايين في الغرب، واخر عمل احترافي متميز يباع يثمن بخس في مجتمع اخر، تلك هي إشكالية أخرى في حديث لاحق.