المبدع“فيلمون بن سعيد وهبي” (1918 – 1985) الفنان الشامل” فنان الشعب”
من منّا لا يعرف «يا طير الطاير» و«دخل عيونك حاكينا» لصباح، و«حلوي وكذابي» و«بترحلك مشوار» لوديع الصافي، و«بليل وشتي» و«إسوارة العروس» و«فايق يا هوى» لفيروز، و«حبيبي نجار» لشريفة فاضل؟ هذه الأغنيات لحنها فيلمون وهبي (1918)، ابن كفرشيما التي حمل أحد شوارعها اسمه بعد رحيله في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1985. عشق الموسيقى منذ طفولته، فسرقه عشقه هذا من الدراسة. قبل الاحتراف، عمل مع شقيقه في المقاولات. وكما لم يصمد في دراسته، لم يحتمل العمل بعيداً من الأجواء الفنيّة، فترك كل شيء وتفرّغ للتلحين والتمثيل. كان ملحناً بالفطرة، لم يدرس الموسيقى أو قراءة النوتة
أسماء لامعة
في غياب فيلمون وهبي قالت فيروز: «كل اللي تركتن اشتاقولك وكل اللي جايين رح يحبوك». رحل منذ ربع قرن، وما زال يخاطبنا بألحان عصيَّة على التقليد، وستظل موسيقاه عنوانًا استثنائيًا لموهبة رأسمالها الفطرة والأصالة. موهبة تجلّت في التلحين والتمثيل وجعلته الـ «مونولوجيست» الذي لم يأتِ الزمن بمثله.
من كفرشيما
في عرين الفنانين، كفرشيما، المدينة التي حافظت على تراث القرية وتقاليدها، ولد الفنان فيلمون وهبي العام 1916. والده سعيد وهبي كان مختار كفرشيما وشيخ صلح، أما والدته فهي السيدة ماري أيوب.
بدأ حياته الدراسية في مدرسة الشويفات الدولية التي كان يذهب إليها متأبطًا العود. فموهبته الفنيَّة برزت باكرًا. ومنذ البداية تملَّكته وراحت تحفر علاماتها. على الرغم من معارضة والده انتصرت في النهاية موهبته على كل شيء، فانقطع عن الدراسة والتحق بركاب الفن باكرًا محتفظًا بعمله في مجال المهن الحرة لمساعدة الأهل.
بداية الطريق
في فلسطين كانت انطلاقة فيلمون وهبي كمطرب (العام 1946)، لكنه ما لبث أن وجد نفسه في التلحين والموسيقى فالتحق مع زملائه أمثال حليم الرومي ونقولا المنِّي وسامي الصيداوي وزكي ناصيف والأخوين الرحباني والمخرج صبري الشريف بإذاعة الشرق الأدنى في خمسينيات القرن الماضي، ثم بإذاعة لبنان الرسمية.
تألق نجمه في التلحين والتأليف والتمثيل الكوميدي، هو الفنان الموهوب الذي لم يدرس النوتة أبدًا كما قال فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب.
يتَّصف العباقرة بمواهب فطرية. فالمخترع أديسون اخترع المصباح الكهربائي على الرغم من رسوبه في مادة الرياضيات عندما كان طفلاً، وفيلمون وهبي عبقري قدَّم أروع الألحان الشرقية المميَّزة من غير أن يدرس الموسيقى وحتى من دون أن يتقن العزف على العود، أو على غيره من الآلات الموسيقية التي لا غنى لأي ملحن عن استخدامها خلال ممارسة التلحين. أما أدوات التلحين مثل التدوين (النوتة الموسيقية) وما يتبعها من علوم الأوزان والإيقاعات والمقامات فلم يسعَ في حياته إلى تعلُّم شيء منها، لكنه إمتلكها بالفطرة التي كانت كل رأسماله إلى الإحساس بالأصالة.
لا لغة للموهبة
لا لغة للموهبة ولا هوية، مقولة أثبتها فيلمون وهبي الذي كان قادرًا على جعل الأميركيين مثلاً يضحكون لنكاته من دون أن يفهموا كلمة مما يقوله. كان يمتلك من الظرف ما مكَّنه من دخول القلوب كلها.
يروي أحد أصدقاء فيلمون وهبي عنه كيف لحَّن أغنية «عباية مقصَّبة» لفهد بلان في سوريا العام 1978 يقول: «إستقبلنا الراحل فيلمون في شقته ببشاشته وطيبة لقائه المعتادة. سأله «الفهد»: هل انتهيت من اللحن أبو عماد؟ أجاب: سأبدأ الآن!! سررت أنني سأشهد شخصيًا ولادة لحن جديد لهذا العبقري الذي أحبه وأعشق ألحانه، فكيف بدأ يلحِّن؟ سحب طاولة خشبية صغيرة وأخذ ينقر عليها بأصابعه، ويدندن مسوَّدة اللحن قائلاً لفهد بلان بين الحين والآخر : «قول معي أبو طلال، قول معي!!». وعلى الرغم من معرفتي مسبقًا بطريقته هذه في التلحين، بدت ملامح الدهشة على وجهي خصوصًا وأن العود نائم على ظهر خزانته !! قطع استغراقه بالعمل ليبدِّد دهشتي قائلا: «عمّو…أنا هيك… جاهز دائمًا!! ما بعرف دو..ري..مي.. وغيرها ولا أتعامل معها ..لكن هات لي فاتورة السمان وشوف كيف بلحنها!!». وفعلاً قام الراحل سمير حلمي لاحقًا بتدوين نوتة الأغنية، وغيره قام بتوزيعها وتدريب الفرقة الموسيقية، وصدحت حنجرة الفهد بلحن فيلمون بأغنية ومن قبلها أغنيات عديدة وكلها حملت بصمات كل منهما في الإبداع والأصالة».
رحلة الصيد والتلحين
أجمل ألحان فيلمون وهبي ولدت خلال رحلات الصيد الذي كان من أحب الهوايات إلى قلبه. ومن رفاقه في رحلات الصيد الرئيس الراحل الياس سركيس والنواب السابقون سامي الخطيب وميشال ساسين ونجاح واكيم وغيرهم، ومن الفنانين كان يتمتع برفقة ملحم بركات ونصري شمس الدين وآخرين. كان يهوى العزف على آلة العود بعد منتصف الليل ومن بين أنامله خرجت مئات من أجمل الألحان. نجح في اختراق الطوق الرحباني حول السيدة فيروز فكان تعاونه معها قمة نجاحه. خلال مسيرة تعاونه الطويلة مع الأخوين رحباني، كانت له حصة مميزة. فالرحبانيان وفيروز أدركوا أي مرتبة استثنائية في الإبداع ينتمي إليها فيلمون وهبي وكانت النتيجة مجموعة أغان لفيروز من أجمل ما سمعته أذن وحفظه وجدان. «جايبلي سلام»، «يا مرسال المراسيل»، «يا دارة دوري فينا»، «من عز النوم بتسرقني»، «بكرم اللولو»، «ليلية بترجع يا ليل»، «الطاحونة»، «يا رايح»، «فايق يا هوى»، «صّيف يا صيف»، «أنا خوفي»، «يا كرم العلالي»، «طيري يا طيارة»، «على جسر اللوزية»، وفي ما بعد «ورقو الأصفر» و«إسوارة العروس» وسواهما من شعر جوزف حرب. أغانٍ تتجدَّد نضارتها ويزداد ألقها وحضورها في الوجدان من جيل إلى جيل. بين الأخوين رحباني وفيلمون وهبي خبز الفن والحياة وملحهما، والكثير من القصص و«النهفات»، ومنها أن أم عاصي عندما سمعت «يا دارة دوري فينا» قالت لعاصي: «ريتك تقبرني شو حلوي هالغنية ما بقى يصير أحلى من هيك»، فردّ عاصي قائلاً: «هيدي لحّنها القرد (فيلمون)مش أنا».
متعدّد المواهب
لحّن فيلمون وهبي لصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين ونجاح سلام وسميرة توفيق وعصام رجي وملحم بركات، وسواهم من كبار الفنانين اللبنانيين. كما لحَّن لفنانين كبار في العالم العربي مثل وردة الجزائرية وشريفة فاضل وفايزة أحمد.
كما في التلحين برع فيلمون في التمثيل على المسرح الرحباني إلى حد وصفه بالعمود الفقري لهذا المسرح. وكان الرحبانيان يغازلانه بلقب «فاكهة المسرحية اللذيذة». وكملحن فقد كان الوحيد الذي تغنِّي له فيروز لحنًا واحدًا على الأقل في مسرحياتها وقد وصفته بأنه «سبع الأغنية وشيخ الملحنين». أبرز المسرحيات التي شارك فيها: «يعيش يعيش»، «ناس من ورق»، «بياع الخواتم»، «لولو»، «ناطورة المفاتيح» و«المحطة» إلى العديد من الاستكشات. كما أصدر ألبومًا تضمَّن مونولوجات فكاهية بينها: «همبرغر»، «فيلمون أتى»، و«البوسطجي».
ومن أهم المسرحيات التي كتبها بالإشتراك مع الشاعر جورج جرداق «قضية وصراحة» التي مثَّل فيها مع الفنان السوري دريد لحام. كما شارك كتابة وتلحينًا وتمثيلاً في مسرحية «ست الستات» للفنانة صباح مع الفنان الراحل وسيم طبارة, والتي عرضت على خشبة مسرح «ستاركو» في بيروت أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
كان أول من نشر الأغنية اللبنانية في العالم العربي وخصوصًا في مصر اعتبارًا من منتصف الخمسينيات من خلال أغانٍ مثل «دخل عيونك حاكينا»، «عالعصفورية» (صباح)، «شب الأسمر جنني»، «برهوم حاكيني»(نجاح سلام)، «بترحلك مشوار» و«حلوي وكذابي» (وديع الصافي). إنتشرت أعماله في الكويت والخليج العربي من خلال أغاني غريد الشاطىء ومحمد الباقر وغيرهما.
ترجمت أعماله وموسيقاه في أوروبا وخصوصًا أغنيات «بسيطة» و«دايشتك بوم» و»قلبي نازل دق» وغيرها، على يد أساتذة موسيقيين مثل الإيطالي إدواردو بيانكو والبريطاني رون غودوين، كما انشدت فيروز أغنيته الشهيرة «جايبلي سلام» في باريس في احتفالات الذكرى المئتين للثورة الفرنسية، ويومها كان صوت فيروز الصوت العربي الوحيد الذي شارك في إحياء الذكرى.
فاق عدد ألحان الفنان فيلمون وهبي الألفي لحن. كما أنه شارك في العديد من المهرجانات اللبنانية والعربية انطلاقًا من مهرجانات بيت الدين إلى مهرجانات بعلبك الدولية ومهرجانات الأرز وجبيل ومعرض دمشق الدولي ومسرح البيكاديلي فمسرح الكابيتول وستاركو وغيرهما برفقة رفاق الدرب فيروز والأخوين الرحباني وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين.
بين الموهبة والأبوّة
خلال الحرب اللبنانية تألم فيلمون وهبي كثيرًا لتركه بلدته كفرشيما قسرًا، ليمكث في بلدة بعبدات زهاء عشرين عامًا، واصل مسيرته الإبداعية خلالها مقدمًا أروع الألحان للسيدة فيروز ومنها: «فايق يا هوا» «ولما عالباب منتودع» «ويا ريت».
رفض الألقاب التي اسبغت عليه باستثناء لقب «شيخ الملحنين» الذي أطلقته عليه فيروز وأحب لقب «ابن الشعب».
تزوج الفنان فيلمون وهبي العام 1946 من السيدة جورجيت خوري (كانت مطربة عرفت باسم تغريد الصغيرة ولديها عدة أعمال وتسجيلات إذاعية وقد لحن لها فيلمون العديد من الألحان ومنها: «خدعتني العين» «وحملتني فوق الألم» وغيرها… ولكنها اعتزلت الغناء بعد الزواج. ولقد رزقهما الله بأربعة أولاد:
-عماد، ماجستير في العلوم السياسية والقانون الدولي من الجامعة الأميركية في بيروت. عازب ورث عن والده روح النكتة والفكاهة.
– سعيد، خبير تجميل وصاحب مؤسسة، متزوج ولديه ولدان فيلمون وماريتا. ورث موهبة التلحين عن والده ويملك صوتًا جميلاً.
– ألحان (ربة المنزل).
– ربيع (إجازة في إدارة الأعمال من الولايات المتحدة الأميركية).
كان فيلمون وهبي ابًا حنونًا مثاليًا وكريمًا مع عائلته، متواضعًا وعفويًا. أحبّ لبنان وبلدته كفرشيما حتى الرمق الأخير، وتميّز بمساعدة الفقراء والمحتاجين والإصلاح بين الناس حتى أطلق عليه لقب «شيخ صلح» مطبِّقًا بذلك قول والده «في كل قرية عمّر بيت» أي ربّي صاحب.
عمّر فيلمون وهبي بيوتًا كثيرة في ذاكرة الناس وترك للأجيال إرثًا فنيًا عظيمًا سيظل يخاطبنا بصوت فيروز وسيظل عصيّا على التقليد والمحاكاة.
رحل في 5 تشرين الثاني العام 1985، لكن موسيقاه ستظل تحمل إلينا السلام والجمال.
قالوا في فيلمون وهبي
إنني لا أعزّي بموت فيلمون وهبي العظيم إنما أعزي الأصوات التي كانت تنهل من منبعه الغزير.
محمد عبد الوهاب
مات فيلمون…
غابت الضحكة… وانكسر سيف
كان ثلاثة: النفحة الشعبية اللي قلال بيبدّعوا مثلا، والضحكة والطلة العملاقة البتلّي مسرح ووطن.
سعيد عقل
كل اللي تركتن اشتاقولك
وكل اللي جايين رح يحبوك
فيروز
كان مجلِّيًا على مسرح الذوق المشرقي وجمالات لبنان، وهو يجيء من سحر الشرق، من تراثات الشرق، من طرب هذه الدنيا العربية الخلابة إلى عرش الأغنية الشعبية في لبنان.
المطران جورج خضر
لو ينبع النهر بين أصابع العطاء لقلت أن الفن نهر، ومن أدى رسالته بصدق… هو العطاء.
من يحدّه الموت ويطوي صفحته للنسيان يكون قد أخفق في الزرع والحصاد.
لكن من يخرق السحاب ليمطر بين من عرفه بالذكرى الطيبة والأعمال الخيّرة … يبقى على الرغم من أي فراق!
د. ألين فرحات اختصاص علوم موسيقية
جوائز وأوسمة
حاز الفنان فيلمون وهبي تقديراً لعطاءاته الفنية المميزة العديد من الجوائز والأوسمة منها وسام الأرز ووسام الاستحقاق من لبنان، وعدة أوسمة من الجيش اللبناني، الى جائزة سعيد عقل والعديد من الأوسمة العربية.