قام تشارلز داروين بزيارة جزر غالاباغوس لمدة خمسة أسابيعٍ في الرحلة البحرية الثانية للسفينة إتش إم إس بيغل في عام 1835 ميلاديًا، وقام بمشاهدة السلاحف العملاقة على جزيرتي سانت كريستوبال (المعروفة سابقًا باسم تشاتام) وسانتياغو (المعروفة سابقًا باسم جيمس)،[75] حيث تكرر ظهورها في العديد من كتابات داروين ومجلاته، كما لعبت دورًا مؤثرًا في إثراء نظريته عن التطور والنشوء.
كتب داروين في قصته عن هذه الزيارة قائلاً:
“حتى الآن لم ألاحظ السمة الأبرز في التاريخ الطبيعي لهذا الأرخبيل، حيث تسكن الجزر المختلفة في هذا الأرخبيل مجموعة من الكائنات تختلف عن بعضها البعض إلى حدٍ كبير، وقد نبهني بدايةً إلى هذه الحقيقة السيد لوسون نائب الحاكم، حيث أخبرني أن السلاحف تختلف من جزيرةٍ إلى أخرى، وأنه يستطيع أن يحدد بكل يقين من أية جزيرة تم إحضار السلاحف،… وكما ذَكرت، يقول السكان المحليون أنهم يستطيعون التمييز بين أنواع السلاحف في الجزر المختلفة، وأنها لا تختلف في الحجم فقط وإنما في سماتٍ أخرى، وقد قام القبطان بورتر بوصف* سلاحف جزيرة (تشارلز) والجزيرة الأقرب إليها وهي جزيرة هود، حيث يقول أن درقها سميكة من الأمام ومقلوبة عند الحواف بشكلٍ يشبه السرج الإسباني، في حين أنَّ سلاحف جزيرة جيمس تكون أكثر استدارةً وسوادًا، كما أنَّ طعمها أشهى عند الطبخ.”[76]
ولم يدرك داروين أهمية هذه الفروق بين السلاحف في الجزر المختلفة حتى فوات الأوان، حيث يستكمل قائلاً:
“لبعض الوقت لم أُعر هذه المقولات الاهتمام اللازم، وكنت قد قمت بخلط مجموعاتٍ من جزيرتين معًا، ولم أتخيل قط أن هذه الجزر قد تسكنها كائناتٌ مختلفة بهذا الشكل وهي تبعد عن بعضها حوالي خمسين أو ستين ميلاً فقط، وتقع على مرأى من بعضها، حيث تشكلت هذه الجزر من الصخور نفسها، وتقع في منطقةٍ مناخيةٍ واحدة، وتمتد تقريبًا على الارتفاع ذاته”.[76]
وعلى الرغم من أن السفينة بيغل غادرت شواطئ غالاباغوس وعلى متنها أكثر من ثلاثين سلحفاة بالغة، لم يكن الغرض من هذه السلاحف هو الدراسة العلمية بل كانت مصدرًا للحم الطازج خلال مدة عبور السفينة للمحيط الهادئ، حيث كان يتم الإلقاء بدرقها وعظامها في المحيط، مما أدى إلى عدم وجود أية بقايا تصلح لاختبار أية فرضية،[77] وقد اقتُرِحَ[78] أن هذا الإغفال كان نتيجة أن داروين أشار إلى رؤيته لسلاحف على سانت كريستوبال[79] من سلالة (تشاتامينسيس) وعلى سانتياغو[80] من سلالة (دارويني)، وتتسم سلاحف كلتا السلالتين بدرقٍ من نوعٍ وسيط ولا تختلفا من الناحية الشكلية عن بعضهما، وعلى الرغم من أن داروين قام أيضًا بزيارة جزيرة فلوريانا، إلا أن سلالة نيغرا حينها كانت قد شارفت على هاوية الانقراض، ومن المستبعد أنه رأى أية سلاحف بالغة عليها.[27]
وعلى الرغم من ذلك، استطاع داروين أن يحصل على أربع عيناتٍ من صغار السلاحف في الجزر المختلفة كي يقوم بمقارنتها، وقد كانت هذه السلاحف من النوع الأليف قام بجمع بعضها بنفسه من سان سلفادور، في حين قام قبطان سفينة بيغل روبرت فيتزروي بجمع اثنتين من جزيرة إسبانيولا، وجمع البعض الآخر خادم داروين سيمز كوفينغتون من جزيرة فلوريانا،[81] إلا أنهم لسوء الحظ لم يستطيعوا تحديد إذا ما كانت كل جزيرة تحوي أنواعًا مختلفة خاصة بها؛ وذلك لأن العينات لم تكن بالغة بالقدر الكافي الذي يوضح الفروق الشكلية بينها،[82] وعلى الرغم من أن المتحف البريطاني يمتلك بعضًا من العينات القليلة، يبقى المنشأ المحدد لهذه العينات داخل جزر غالاباغوس غير معروفٍ،[83] وفي مناقشاته مع داروين، أكد عالم الطبيعة الفرنسي غابرييل بيبرون، الذي شاهد السلاحف البالغة في متحف التاريخ الطبيعي بباريس، وجود أنواعٍ مختلفةٍ من السلاحف.[84]
وفيما بعد قام داروين بمقارنة أشكال السلاحف المختلفة بأشكال الطيور المحاكية، وذلك في أول[85] تصريحٍ تجريبي له يربط بين ملاحظاته التي أخذها من جزر غالاباغوس واحتمالية تحول الفصائل وتطورها، حيث يقول:
“عندما أتذكر حقيقة أن الإسبان بوسعهم تحديد الجزيرة التي تأتي منها السلحفاة [بناءً على] هيئة الجسم وشكل الدرقة والحجم، وعندما أرى كيف أن هذه الجزر تقع على مرأى من بعضهم البعض ولا تسكنها غير سلالاتٍ قليلة من الحيوانات وهذه الطيور، وتقريبًا تتسم بالتكوين الجغرافي ذاته، لا يسعني سوى أن أشك أنهم فقط أنواعٌ تطورت من فصيلة واحدة،… وإذا كان هناك أدنى أساسٍ لهذه الملاحظات، فسوف تصبح الحياة الحيوانية لهذا الأرخبيل جديرةً بالدراسة، لأن مثل هذه الحقائق سوف تضعف نظرية استقرار الأنواع.”[86]
وفي مذكراته أشار داروين مجددًا إلى آرائه عن قابلية الأنواع للتحول والتطور حيث يقول: “سوف تختلف الحيوانات الموجودة على الجزر المختلفة إذا تم الفصل بينها بمسافة كافية وإذا تم وضعهم تحت ظروف تختلف اختلافًا طفيفًا. وهي الآن سلاحف غالاباغوس، والطيور المحاكية، وثعلب جزر فوكلاند، وثعلب أرخبيل شيلوي والأرنب البري الإنجليزي والأيرلندي،”[87] وقد كانت هذه الملاحظات بمثابة آراءٍ مضادة للنظرية السائدة وقتئذ والتي تؤكد أن الأنواع جميعها خُلِقَت بشكلٍ منفصل.
ويرى داروين أيضًا أنَّ هذه “الحيوانات العتيقة”[79] وسيلةٌ للتسلية حيث يقول: “كثيرًا ما كنت أركب على ظهورها ثم أربت على مؤخرة درقها قليلاً، فتهم واقفةً على أقدامها وتبدأ في السير، إلا أنه كان من الصعب علي الحفاظ على توازني أثناء الركوب.”[53]