يعتبر أحمد سيفاو أحد أهم مصوري الفوتوغراف الليبيين. فقد احترف هذا الفن مبكراً، وعمل جاهداً على ترسيخ أسلوب خاص به من خلال تناوله مواضيع جمالية تصوّر التراث الليبي وتاريخه وآثاره.
فمنـــذ بداياته حاول ســـيفاو البحث عن شعرية في المكان، واهتم بتصوير المدن الليبية القديمة وتفاصيل هندستها المعمارية، وجماليات الشوارع الضيقة والأزقة، وأبواب البيوت، ومساقط الضوء والظل في تلك المدن والواحات الصحراوية.
أحمد سيفاو ابن جبل نفوسة وابن طرابلس، ظل مولعاً بحذافير أمكنة طفولته حيث كبر وترعرع، باحثاً عن حكاياتها غــير المروية لتلتقطها عدسته وتقدمها طبقاً من الحنين والجمال الخالصين إلى فردوس طفولة مفقود.
يتنقّل أحمد سيفاو بين مدن وقرى وواحات ليبيا، بحثاً عن ذلك الجمال وتلك التفاصيل التي تكاد تندثر ويغطيها ركام الهدم والاهمال والعشوائيات، ويلتقط ما تبقى من ذلك التراث المهدد بالخراب في مدن الساحل الليبية القديمة وفي مناطق ومدن الجبل الغربي وواحات الجنوب. ولا يجد ضــالته الجمالية إلا في حواري طرابلس وأزقتها القديمة ونالوت وغدامس، فيلتقطها بلهفة وعناية وحب، ويقدمها بكاميرا المحترفين القديمة، مانحاً إياها ذلك الوله بالأشــياء والأمكنة والطفولة حتى تبدو صوره قصائد ضوء وظل. وتبدو هذه الصور الشاعرية كأنها قصائد وروايات حميمة عن علاقة عاشق بعشيقته. والعشيقة هنا هي الأمكنة الليبية الخلابة الهاربة من الظلم والقهر والإهمال والتدمير العشوائي.
احساس وجداني
أقام الفنان أحمد سيفاو كثيراً من معارض الفوتوغرافيا التي تعتبر تلاوة متنوعة المقامات لقصيدة واحدة هي التشبث بما تبقى من جماليات أمكنة أنتجها الليبيون عبر تاريخهم. ويصورها وكأنه يمسح عنها تلوث البصر وفوضى الألوان.
امتاز سيفاو بتقديم أعماله وعرضها في سياق خاص، فلا تشتت في الأساليب ولا تجاور لأعمال متناقضة، بل سياق شعري بصري منتظم وعزف لميلودي واحدة وتيمة واحدة تتكرر متنوعة على رغم وحدتها.
تحاول كاميرا سيفاو وهي تداعب بعاطفة جياشة ذلك الميراث، إيقاظ الإحساس الوجداني في نفس المتلقي بأمكنتها وجمالياتها التي غابت بعيداً في أعماقنا، ما جعلنا تائهين بين زخارف واردة نراقبها منفصلين عنها ومغتربين.
تجربة الصورة عند سيفاو تشي بذلك الدفاع المستميت عن الخصوصية البصرية والوجدانية لشعوب تعاني اغتراباً قاتلاً عن ذاتها وتاريخها ومنجزها الحصاري المدفون والذي لم نعد نرى منه إلا نتفاً هنا وهناك، وفي أحيان قليلة ونادرة.
في ليبيا تعرضت المدن القديمة لطمس وتدمير عجــيبين، بعضها بحجة التطوير وأخرى بسبب الإهمال. وفي الجنوب طوى بعضها الرمل وابتلعها، إضافة إلى أن بعض المدن القديمة تبنى فوق بعضها بعضاً لتختفي القديمة تحت الأحدث. فطرابلس الفينيقية تقبع تحت الرومانية، والرومانية تحت الإســلامية. وفي زويله إحدى محطات تجارة القوافل والتي كانـــت القاهرة تفتح باباً باتجاهها «باب زويلة» تقبع «شيلالا» الرومانية تحـــت زويلة الإســـلامية. وفي الجبل الأخضر تختفي أجزاء كبيرة من «قورينا» القديمة تحت «شحات» الحديثة… وعلى هذا النحو يبدو عمل أحمد سيفاو مقاومة حقيقية للخراب والطمس والنسيان.
تجوّل سيفاو بكاميرته «العجوز» كما يسميها أصدقاؤه، عبر ليبيا الشاسعة والتقط ما تبقى من أمكنة، ما تبقى من تراث ومن أحاسيس ووجدان بذلك الإرث وتلك الجماليات. كان ولا يزال يجمع تلك الفسيفساء التي تتهشم وتتناثر، ويحاول ترتيبها في معارضه لتبدو على رغم التشظّي لوحة واحدة تثير فينا المتعة بجمالها والحزن لتشظيها.
لملمة الجماليات الليبية والذات التي ظلت تتشظى لقرون ومحاولة رتق نسيجها وترتيب عناصر فسيفسائها، هي سياق كاميرا سيفاو «العجوز» الذي يحاول تقديمه وإحياء إحساسنا به عبر معارضه الكثيرة.
تمتاز تجربة سيفاو في التصوير الفوتوغرافي الليبي بهذا السياق وهذه «التيمة «الدائمة والمتكررة، سياق الوحدة المتنوعة والرغبة في إحياء وجدان يغترب عن أمكنته وجمالياته وخصوصيته المهدّدة بالاضمحلال والتلاشي.
يعني اسم سيفاو الأمازيغي الضوء، وهو يحاول أن يتناغم مع اسمه مسلطاً ضوءاً شاعرياً على ظلال النسيان والاغتراب.