غادرت الفنانة البصرية، هالة القوصي، عملها كمصورة شارع، منذ ما يقرب من عشر سنوات، بسبب الأسئلة الأخلاقية التي واجهتها حول دور مصور الشارع كمتلصص على المدينة، ومخترق لخصوصيتها وحياة سكانها، ولعجز الفوتوغرافيا عن نقل المواقف بحيويتها للمشاهد كما يراها المصور والفنان بعينه حين يلتقط الصورة في موقف حي معاش، فقررت التحول إلى الأعمال المركبة، التي تمزج فيها بين الفوتوغرافيا والتصوير والكتابة.
لكن هالة، التي عانت من مناخ من عدم الوضوح في العام الأخير ورغبة في عدم الانخراط في مشاريع كبرى واستعادة مستوي من الطبيعية عبر عمل منتظم، قررت العودة لاستئناف عملها كمصورة شارع في ربيع وصيف 2012، في محاولة لإعادة تأمل ما اعتادته عيناها، وقامت بالتصوير في شوارع القاهرة يومياً لمدة خمسة أشهر متصلة كان نتاجها، معرضها الأخير الذي أقيم بجاليري “مشربية” بالقاهرة في الفترة ما بين 9 مايو إلى 4 يونيو، تحت عنوان “رحلة في حجرة معيشتي”، كشفت فيه عن المدينة الخفية التي تختبئ وراء ضوضاء وزحام القاهرة، عبر مساحات صامتة وخاوية تفيض بالمعاني والروايات التي ليست “كبيرة”، وساعات طويلة من الانتظار.
“رحلة في حجرة معيشتي”، عمل مركب مكون من صور فوتوغرافية مرتبة بعناية وبنسق خاص، ومرايا موزعة علي 7 حوائط تقريباً، وعملي فيديو ودولاب مقتنيات شخصية قديمة لهالة القوصي، إضافة إلي كراسي خشبية تماثل في تصميمها بعض الكراسي في الصور.
استوحت القوصي، عنوان المعرض من رحلة “زافيية دي متر” داخل حجرة معيشته عام 1790 والتي استمرت ستة أسابيع أعاد فيها اكتشاف مناظر معتادة وتأمل في قيمتها وتأثيرها علي حياته، وقد دون آلان دي بوتون تلك القصة في كتابه “فن الترحال”، وهو الكتاب الموجود داخل دولاب هالة القوصي.
في هذا المعرض، تعيد القوصي رؤية حجرة معيشتها، التي لا تتكون من حجرتها الشخصية والمقتنيات التي تضمها فقط، ولكن تمتد إلي جميع مناحي القاهرة، فالقاهرة جزء من حجرتها كما هي جزء من أغلب أعمالها، وتظل أبواب دولاب القوصي التي لا تسمح بفتحها علي مصراعيها، هي الخط الفاصل بين حجرة معيشتها وما هو خاص وحميم جداً بالنسبة إليها وبين المدينة التي تصورها عبر عشرات اللقطات الفوتوغرافية الموزعة علي حوائط المعرض والتي تختلط فيها صور فوتوغرافية عائلية خاصة بها، في إشارة للاندماج والتمازج بين حياتها في غرفة معيشتها والقاهرة التي ترتبط بها.
تكشف هالة القوصي، في تلك الصور عن المدينة الخفية، عن المرئي اللامرئي، في تلك المدينة التي نحيا فيها دون أن نكتشف تلك الطبقات الهائلة من التفاصيل تحت ركام حياتنا اليومية، عبر ومن داخل منظورها الخاص لتلك المدينة، التي تراها من داخل حجرة معيشتها، – ما يراه مصور لا يراه آخر – مبرزة تناقضاتها وتغيراتها وتفاعلاتها وصمتها، واختلافاتها التي يختبئ كل منها وراء الآخر، في انتظار عين فاحصة قادرة علي التقاط تفاصيل التفاصيل ورؤية الجمال الذي تصنعه فوضي آثار سكان هذه المدينة من ألوان وزخرفات عفوية علي الحوائط والطرقات.
ليست جماليات قبح تلك التي تبرزها هالة القوصي، في تصويرها لعشوائية المدينة وكراكيبها، وكراسيها القديمة الملقاة علي جوانب طرقاتها لكنه غرام بالتفاصيل المهمَّشة والمهملة، التي لا يلتفت إليها أحد، تلك التفاصيل التي تكون مدينة خفية نمر عليها دون أن نمر عليها، ونراها دون أن ننفذ إليها. هو عناية بالتقاط الأشياء المهملة والتي تقبع في انتظار شيء ما قد لا يأتي أبداً.
يضم دولاب هالة القوصي، بعض المفكرات والكتب الخاصة بها، وقصص طفولتها ومجموعة من نظاراتها، وشهادة تقدير عسكرية لأحد أفراد عائلتها ومعاطف قديمة وأفلام تصوير لم تعد تستخدم ومجموعة كبيرة من المفاتيح، والعلب ومجموعة من الكتب، وضع منها كتابان بوضوح تام، الأول هو كتاب “فن الترحال” لآلان دي بوتون، والثاني، “المدن الخفية”، لإيتالو كالفينو، وهما مفتاحان هامان لفهم هذا المعرض، الذي تجمع بين أجزائه مجموعة ضخمة ومتشابكة من العلاقات والرموز التي قد يستغرق تحليلها وقتاً لانهائياً تقريباً.
في الأرفف السفلية من الدولاب يوجد عملان بالفيديو، مدة كل منهما ثوان معدودة، الأول يصور شخصاً لا يظهر بالكامل وهو يمسك بما يشبه البنورة السحرية، التي يمكنك أن تطل منها علي القاهرة، وكأنها عين سحرية، والفيديو الآخر يصور عيناً بشرية تتقلب يمنة ويساراً.
يرمز المقطعان اللذان وضعتهما هالة القوصي بشكل خفي لا يسهل اكتشافه، إلي تلك المنطقة الخاصة التي تنظر منها هالة القوصي – من داخل حجرة معيشتها – إلى المدينة، وتجعلنا نحن نراها من خلالها.
على جدران المعرض تتناثر عشرات الصور الفوتوغرافية المتعددة الأحجام، المرتبة بشكل منظم وفي البداية نقابل بثلاث مرايا، واحدة منها واضحة والأخري نصف مشوشة والثالث ملطخة تماماً. تعكس المرايا صورة ذات المتفرج بحالاته المختلفة، لا تسمح المرايا للأشخاص ذوي الطول المتوسط أو الأطول من رؤية وجوههم في المرايا، وهي فرصة للمتفرج لأن يري صورة ذاته عبر أكثر من انعكاس، والتقلب من حب الذات إلي كراهيتها.
تلتقط هالة القوصي، صوراً لكراسي ملقاة بالشارع أغلبها ممزق، ومنهك مجهد بفعل الجلوس وبفعل الزمان، تتنوع أحجام الصور كما تتنوع أحجام الكراسي وأنواعها. كراسي تنعكس صورتها في الماء الراكد وكراسي ترتكن إلي الحائط أمام طاولة خاوية وكأنها تنتظر شيئاً ما بعد يوم منهك وطويل، وأخرى مصفوفة فوق بعضها، وتظهر الأشكال والألوان الفوضوية للمحلات وواجهاتها ولنوافذ البيوت التي تكون في النهاية شكلاً فنياً بديعاً لا يلحظه أغلب الناس.
يغيب البشر عن أغلب الصور، لكن لا يغيب الحضور الإنساني عن تلك الصور، فلقطات هالة القوصي تظهر ما يتعدى الصورة، تسعى للقبض على ديناميكية الحياة عبر آثارها، رغم الصمت والسكون الذي يخيم عليها. إذا ما استعملنا مصطلحات الفيلسوف الألماني هيدجر يمكننا اعتبار أن صور هالة القوصي، هي الأرض أو المادة الخام التي ينبع ويتفتح منها العالم، فوراء كل صورة من صورها عوالم مختلفة يحتاج كل منها لشرح وتفسير، بعضها لن يجد المتلقي أمامها سوي الوقوف في سكينة واسترخاء متأملاً العناء والانتظار والإنهاك الذي تكشف عنه الصورة.
تختبر هالة القوصي عبر لقطاتها الطريقة التي ترتبط بها الأشياء ببعض، ولكنها تختبر أيضاً فهم المتلقي لبعض الأشياء التي نستخدمها بشكل يومي، فتضع أمام صورة لكرسيين مربوطين ببعضهما، كرسيين حقيقيين، شبيهين بالكراسي في الصورة، في محاولة لاختبار علاقتنا بالأشياء من خلال الخيال الذي يخلقه الصورة وأيضاً من خلال ذلك الذي يخلقه الوجود المادي لأشياء، وربما طرح السؤال عن أي الكرسيين أكثر حقيقية.
يلفت النظر سلاسل قصيرة من الصور داخل حوائط صور هالة القوصي ترتبط فيها كل مجموعة من الصور ببعض، منها سلسلة من أربع صور يظهرن قصارى زرع بأحوال مختلفة، وثلاث صور تصورن باباً وقصرية زرع وحجرا تتبدل مواقع الباب والزرع داخل كل منها، وأخري تظهر فيها دواليب موضوعة بالشارع ورجل جالس بجانبها مرة ومرة بدونه، تظهر هالة التغير والحركة في المدينة عبر التغلب علي قصور الفوتوغرافيا بوضع أكثر من صورة.
يظهر شغف القوصي بالتناقضات في اللقطة التي تظهر وروداً ذابلة إلي جانب ورود مزهرة، ويظهر شغفها بالحركة في الصور التي تظهر قدمي امرأة أثناء المشي، بوضعية قدم ثابتة وأخري تتحرك، وشغفها بالتنوع في تلك التي تظهر ورود في أشكال زخرفية وأخري حقيقية تماثلها في الشكل. ولا تخلو بعض اللقطات من سخرية.
تطغي الصور الفوتوغرافية علي معرض هالة القوصي، لكنه ليس معرض فوتوغرافيا، وأي تأويل له علي هذا النحو سيبدو خاطئاً. بنت هالة القوصي معرضها كوحدة مركبة واحدة، وحداتها الأصغر الصور التي تربط بين كل منها علاقات ترمز إلي تطور أو تغير أو تناقض أو تنوع في تلك المدينة، فلم تضع هالة القوصي الصور التي التقطتها كوحدات منفصلة، ولكن كوحدات تعمل كمجموعات تحكي كل منها قصصاً صغيرة، هامشية وجانبية لكن “للي يشوف يلقي جواها عالم كبير”.
في حائط ملون بشكل هندسي، تضع القوصي خلاصة ما قامت بتصويره، بشكل تجريدي، عبر مساحات ملونة بشكل هندسي في براويز صغيرة، وتضع بجانب كل برواز منهم صورة حقيقية تتماثل ألوانها مع الألوان المجردة، لتضع لنا ما يشبه دليلاً بصرياً لجماليات المدينة عبر تجريد خبرتها الجمالية مع المدينة، بخطوط هندسية وألوان خام.
تصف لنا القوصي، عبر لقطاتها، كما وصف ماركو بولو لمضيفه الإمبراطور الصيني كوبلاي خان كما في كتاب “المدن الخفية”، تفاصيل كثيرة عن مدن نحسبها مختلفة، لكننا نكتشف في النهاية أنها تمثل مدينة واحدة، مدينة خفية تقبع تحت تلك التي نعرفها، لكن لا نعرفها حقاً.
وكخان وبولو، لا تتحدث هالة القوصي لمشاهدي معرضها بنفس اللغة، لكننا نفهم ما تقوله عبر تأويل ما تمنحه لنا من تفاصيل مرئية وخفية، تاركة لنا القرار النهائي حول قصتنا التي نصنعها من تلك المدينة، كما يمنحنا فرصة للتطهر من غبار المدينة لرؤيتها في ضوء جديد.