«كان البحر محصَّنا من الخسارات».. تأملات حول معرض «على البحر»
افتتح الشهر الماضى (21 يوليو – 4 أغسطس) معرض تصوير فوتوغرافى فى وكالة بهنا بالإسكندرية تحت اسم “على البحر”، نظمته الفنانة والمصورة الفوتوغرافية هالة القوصى ويضم مجموعتها الشخصية التى قامت بجمعها من الصور القديمة والمأخوذة على البحر لمصورين هواة ومحترفين.
خلال الندوة التى أقيمت بعد المعرض أثيرت مجموعة من التساؤلات: هل يمكن لنا أن ننشر صورا لأناس ماتوا وليس لنا بهم أى قرابة؟ كيف يتم التعامل مع الأيقونة القديمة والمقدسة؟ لمن ترجع أحقية هذه الصور؛ لأصحابها الذين لم يعودوا موجودين، أم لهذا الأرشيف الكونى الذى تدخل فيه هذه الصور.
هذا المقال عبارة عن مجموعة من الأفكار التى استدعتها هذه المناقشة التى دارت بالمعرض.
1
منذ ثلاثة عقود تقريبا بدأت مجموعة كبيرة من “الكروت بوستال” تخص نشاط الناس والعائلات فى الحياة اليومية فى مصر، من بدايات القرن العشرين حتى العقد السادس أو السابع منه؛ تخرج للنور وتصبح مادة للدراسة والتجارة والحنين. ظلت هذه الصور فى الظلام يتم تداولها فى صالونات البيوت، ومناسباتها الخاصة دون أن تخرج للعلن. ثم غابت هذه الصور العائلية، وتقاليدها عن الحياة زمنا، الزمن الذى قضته لتتعتق ويصبح لها هذه الأهمية فى التداول وفى طريقة النظر إليها. ثم غزت محال بيع الأنتيكات وصار لها سوق كبيرة، ربما بعد أن أيقن الناس بنهاية مرحلة من الزمن، ودخول كل تفاصيلها وثوابتها وناسها وملابسها إلى مصاف الذكرى والحنين.
بعد مرحلة التعتيق خرجت هذه الصور للحياة العامة بسبب موت أصحابها الأصليين، أو هجرة أصحاب استوديوهات التصوير من الأجانب وبيعهم لها، أو وصول ألبومات أى عائلة لأحد أفرادها المهتمين والشغوفين، والذى سيفنى حياته فى تجميعها أو بيعها، سيان فعند هذا “الحفيد” هناك نقطة تحول.
2
على كل الشواطئ فى الإسكندرية، فى أشهر الصيف، كان هناك مصور أو أكثر لكل شاطئ، يلبس قميصا وشورتا أبيضين، ويضع برنيطة من الخوص على رأسه ليتميز عن الباقين، ويعلق كاميرا ضوئية فى رقبته بواسطة حزام جلدى رفيع، يقطع الشاطئ ذهابا وإيابا، حافيا على الرمال، يعرض بضاعته على مرتادى الشاطئ لالتقاط صور لهم تخلد هذه الذكرى. كان البحر هو الخلفية الدائمة لهذه الصور، تماما مثل ستارة استوديو التصوير المرسوم عليها منظر طبيعي. ولكن المنظر الطبيعى هنا حقيقى.
“الطبيعة التى تخاطب آلة التصوير الفوتوغرافى هى طبيعة أخرى غير تلك التى تخاطب العين (…) يتم استبدال فضاء متقن الصنع بواسطة الإنسان بصورة واعية بفضاء مهيأ بطريقة لا واعية”. (1)
البحر يمنح خلودا للصورة، بوصفه أحد عناصر الكون، الأبقى والأقدم، والطيِّعة فى التشكل ومنح صورة الذكرى زمنا معتَّقا يتجاوز زمن الذكرى نفسه.
البحر ثابت لا يتغير مشهده أو جغرافيته، بعكس الأرض فهى متغيرة. يقول “جون آر غيليس” فى كتابه “الساحل البشرى”: “كان البحر محصنا من الخسارات التى عانتها اليابسة باستمرار. لقد كان خالدا” (2). هذا الخلود انتقل للصور الفوتوغرافية، لأنها الشاهد عليه. البحر “نقطة عود أبدية لا تتغير أبدا” (3) كأنك فى رحلة مقدسة تقوم بها إلى البحر، ويجب أن تسجل تفاصيل هذه الرحلة لأهمية المزار. لقد تجمد البحر زمنيا فى ملايين الصور الفوتوغرافية.
يضيف غيليس “البحر مهرب من الزمن والتاريخ” (4) و”خلق الشاطئ من العدم، دون أن يوفر شعورا بالمكان، أو شعورا بالتاريخ” (5). إنه مكان خارج التاريخ ولحظات السعادة المقتنصة داخله فى الصور لا تعود لزمن اجتماعى أو تصنيف طبقى، هى أيضا خارج التاريخ.
3
كان فى بيتنا شنطة جلدية تحتفظ فيها والدتى بصور الشاطئ لسنوات المصيف فى مرسى مطروح فى نهاية الستينيات، مع صور أخرى قديمة فى مناسبات مختلفة: زواج، زيارة أحد الأماكن الأثرية، الذهاب لمحطة القطار لاستقبال أحد العائدين أو المسافرين.
كانت إحدى هواياتى فى الصغر، أن أعيد بعثرة هذه الصور على السرير ومشاهدتها. كان هذا فيلم السهرة الخاص بى فى الأيام التى لا يوجد بها فيلم سهرة فى التليفزيون.
أتذكر فى إحدى الصور، أخى هشام الذى توفى حديثا، وهو جالس على إحدى صخور شاطئ عجيبة فى مرسى مطروح المنحدرة بقوة، يلبس شورتا وفانلة من اللون نفسه، ويضع فى قدمه صندلا بلاستيكيا اشتهر فى هذه الفترة من الستينيات، ويضع برنيطة من الخوص على رأسه تشبه برانيط رعاة البقر.
ضمن هذه الصور كانت هناك صور لفتيات فى سن المراهقة، بنات صُحبة المصيف، يلبسن مايوهات تغطى الصدر تماما، واقفات أيضا على هذه الصخور التى تصور عليها أخى. كن مبتسمات للكاميرا ومنهن من يغطى شعره ببونيه مصنوع من مادة مطاطية، وأخريات تتهدل شعورهن بقطرات ماء تتساقط منها.
فى إحدى الليالى وجدت أمى تخرج شنطة ذكرياتها هذه وتمزق الصور حتى لا يراها أحد بعد وفاتها. كانت تخشى تسرب الذكرى القديمة فى أيد غير أمينة، بما تحمل من صور الفتيات وهن يرتدين المايوهات، وخروجها من ظلام دولاب الذكريات إلى العلن. كانت تخشى على أجساد صاحبات الصور من أن يخدشها أحد غريب، فقد أصبحن أمهات الآن (زمن تمزيقها)، هذا كان تبريرها. بالرغم من أنها لم تتتبع مصيرهن وانقطعت العلاقة مع صاحباتها وعائلاتهن بانتهاء زمن التصييف والنزول إلى البحر فى السبعينيات.
ربما كانت أمى تتخيل أبناء هؤلاء الفتيات الصغيرات ومشاعر الخجل تغمرهم وهم يشاهدون صور أمهاتهن بالمايوهات على الشاطئ. ربما كانت تتمثل نفس المشهد بالنسبة لها، وفى كل المناسبات. ربما تمسك أمى بنقطة حساسة فى ثقافتنا، هى خجل الابن وخوفه من جسد أمه، أو لو عكسنا الوضع المسافة الملتبسة بين الام وابنها.
قبل هذه الواقعة بعدة عقود وربما فى الأربعينيات، تعلق خال والدتى الشاب بهواية التصوير الفوتوغرافى، وقام بشراء عدة كاملة كاميرات وأجهزة مساعدة وآلات تحميض وفلاشات كأنه على وشك افتتاح استوديو. وبعد سنين من ممارسة التصوير بصورة قريبة من الممارسة الاحترافية؛ أفتى له أحد الشيوخ، بعد أن رأى صورا شبحية على النيجاتيف الزجاجى، بحرمانية التصوير! فأهملها خال والدتى وترك كل الكاميرات وآلات الإضاءة والتكبير والتحميض والحوامل النحاسية وغيرها فوق الصندرة نهبا للصدأ. واتجه بكليته نحو عمله الخاص.
خال والدتى هذا قام بنفسه بشراء كاميرا تصوير فوتوغرافى لأخى الكبير هشام بمناسبة نجاحه فى شهادة الإعدادية فى بدايات الستينيات، بعد تخليه عن التصوير بحوالى عقدين من الزمن، ربما تكفيرا عن هجره لهذه الهواية.
حكى لى أحد الأصدقاء المهاجرين حكاية طريفة للغاية. إنه وهو يقلِّب فى صور صندوق ذكرياته التى أخذها من البيت قبل هجرته، فى إحدى ليالى الهجرة المثلجة، وجد صورا كثيرة لجدته وهى بالمايوه تستحم على أحد شواطئ الإسكندرية. فحبًّا لهذه الجدة الحديثة، ولهذه الفترة المتحررة فى حياة الجدات والمرأة بصفة عامة فى مصر؛ قام بنشرها على صفحته على فيسبوك. فما كان من عمه الصغير (الذى هو صديق له ولا يفرق بينهما سوى سنوات قليلة)، أن تحدث معه تليفونيا متأثرا بشدة من نشر صورة والدته بالمايوه هكذا على الملأ. ربما علاقة الحفيد بجسد جدته متخلصة نوعا ما من الذنب، غير علاقة الابن بأمه المحملة بمشاعر نفسية ثقيلة.
بالتأكيد فى اللحظة التى مزقت أمى فيها هذه الصور (بداية التسعينيات) كان جسد المرأة كله قد دخل فى الحجاب ثم انتقل منه إلى النقاب. فالزمن الذى استغرقته هذه الصور داخل شنطة الذكريات كان يغير من طريقة النظرة إلى جسد المرأة.
4
فى صور الشاطئ وغيرها، الجميع كان يسلم نفسه لكاميرا المصور بدون حساب أو خوف من المستقبل، ظنا منه أن هذا المستقبل لن يراه بصورة مختلفة عن نظرته لنفسه. بمعنى آخر، لن يخذله المستقبل، وسيقدر خصوصية هذه اللحظة الثمينة من حياته.
من كان يُصوَّر ربما كان ينظر لزمن قادم خال من كل هذا التعقيد ومن التأويلات، زمن يقدر السعادة التى منحوها ووضعوها فى هذه الصور. زمن سيتخلون فيه عن كل علاقاتهم ونسبهم ويتحولون إلى بورتريهات تخلد لحظات السعادة والذكريات، وربما هى أهم وأقدس من أى خصوصية أخرى حتى ولو كانت منصبة على أجسادهم. كانوا ينظرون لهذا الزمن الكامن فى الكاميرا.
عندما نرى الصور القديمة كأننا نتفرج على فيلم، كأنهم كانوا يمثلون فى فيلم لن يعرض مرة أخرى بهذا الشكل وبهذه الحرارة والديكور. بيننا وبينه حاجز زمنى.
ربما هذا الفارق الزمنى بيننا وبينهم قد حوَّل الماضى إلى مشهد سينمائى، وبذلك انتفت عنهم واقعيتهم وحقيقتهم، وسيان معرفة اسم العائلة أو اسم الشخص، لا يهم، فكلهم لهم اسم واحد وصور مختلفة. ربما بطول الزمن وتقادمه لن يهتم أحد باسم فلان أو علان، سيتحول الجميع إلى لوحات، ربما عندها يختفى الاسم تماما، أما قوة الأثر، والخيال فهما الزمن الحقيقى ونحن الوهم.
بالتأكيد كانت لهم حياة مثل حياتنا، ولكنها أصبحت هامة بسبب ندرة المعلومات المتوفرة عنها.
ربما ظهور مناهج تقيَّم بها هذه الصور بجانب الاهتمام الشخصى، يعيد تصور كل هذه الثوابت. مثل أى اكتشاف يعبر بالمقدس ويغيره، لذا نحن فى انتظار الاكتشافات التى تؤول الصور وثوابتها وسياقها، أكثر من الحنين.
جزء من هذه مشاعر الحنين، وليس الكل، يعود لطبيعة شعوب غير متحققة.
هذه اللحظات الحميمية النادرة يجب أن تقدر وتُعامل بقدسية من قدم نفسه، ووقف أمام العدسة المفتوحة، كمادة للفرجة والدراسة والتجارة والذكريات، مثل الموديل العارى فى مراسم كليات الفنون الجميلة قديما، حتى ولو كان عدد هذه الصور بالملايين.
……………………….
* الصور المصاحبة للمقال مأخوذة من المعرض.
(1) تاريخ موجز للفوتوغرافيا – فالتر بنيامين. مقالة منشورة بمجلة أمكنة العدد الثامنيونيو 2007 – ترجمة عن الفرنسية أحمد حسان
(2) (3) (4) (5) الساحل البشرى – جون آر. غيليس. ترجمة د.إبتهال الخطيب. سلسلة عالم المعرفة 430- نوفمبر 2015- المجلس الوطنى للثافة والفنون والآداب- الكويت.