قصر العظم في دمشق…
تحفة معمارية وأمثولة للبيت الدمشقي المتكامل
موريس عائق
حين أراد أسعد باشا العظم، والي مدينة دمشق في العهد العثماني أن يبني بيتاً يبز بيوت دمشق قاطبة بحث كثيراً عن مكان يتسع لتجسيد أحلامه… أراده بيتاً يتناسب مع الإرث المعماري الدمشقي والإرث الحضاري الإسلامي، كما أراده متناسباً مع قوة وهيبة السلطنة العثمانية آنذاك. بحث الوالي كثيراً إلى أن تيقن أن لا مكان يتسع لطموحاته يتكون من مساحة بيت دمشقي واحد، فما كان منه إلى أن اختار ذات المكان الذي بني عليه قصر الخضراء الذي بناه معاوية بن أبي سفيان والذي تحول فيما بعد لدار الذهب في العصر المملوكي… لكن الوالي الصاعد سريعاً على سلم السلطة لم يكتف ببقايا قصر الخضراء فراح يصدر الفرمان تلو الفرمان بمصادرة البيوت المحيطة بالقصر ويعوض أصحابها بالمال ثم هدمها عن بكرة أبيها واستخدم المئات من الصناع والمعماريين المهرة الذين جلبهم من بلدان عديدة كي ينشئ على تلك الرقعة قصره الموعود.
قصر أسعد باشا العظم الذي أنشئ عام 1749 ميلادية على مساحة فاقت الـ 5500 متر مربع وسط مدينة دمشق القديمة ليكون مقراً لوالي دمشق وبجانب جامعها الأموي الكبير، يمثل اليوم الآن مأثرة معمارية فريدة بلغ فيها فن العمارة الإسلامية والدمشقية قمة الإبداع والانسجام مع روح الزمان والمكان والسكان. ويعتقد أن مساحة القصر الأصلية كانت تفوق ذلك بكثير…
يتألف القصر حالياً من ثلاثة أقسام حسب التقليد الدمشقي العريق وهي قسم “السلملك” وهو القسم المخصص للرجال وقسم “الحرملك” وهو القسم المخصص للنساء والقسم الثالث هو قسم “الخدملك” وهو المخصص للخدم وطبعاً يضاف إلى ذلك الحمام والقسم الخاص بالعربات أو المرآب… ونلاحظ هنا أن المفردات مأخوذة من اللغة التركية التي تشير فيها اللاحقة “لك” على اسم المكان فالحرم – لك هو مكان الحريم والخدم – لك هو مكان الخدم والسلام – لك هو مكان السلام والضيوف الرجال…
للقصر بوابة تؤدي لممر عريض مغطى بعقود متصالبة وعلى يمينه مصطبة للجلوس ويؤدي هذا الممر إلى قسمي الاستقبال والمعيشة أي السلملك والحرملك حيث تزيد ساحة الحرملك على ثلثي مساحة القصر وهي المساحة الأكبر غالباً في البيت الدمشقي، وحول فنائه الواسع تتوزع القاعات والغرف والإيوان الكبير وهو شبه غرفة مفتوحة على ساحة البيت، وتمتد أمامه بركة ماء طويلة شبيهة ببركة جنة العريف في غرناطة. وتحيط بالبركة أشجار باسقة للزينة وأشجار حمضيات متنوعة بالإضافة لعرائش الياسمين الدمشقي وقد زينت واجهات الغرف والقاعات بمداميك ملونة مغطاة بزخارف هندسية دقيقة، فيما غطيت الأسقف بالأخشاب الملونة.
أما القسم الأصغر حجما وهو قسم الاستقبال (السلملك) فيحمل ذات الزخارف وذات الطابع المعماري وفى وسط فنائه بركة ماء مربعة أيضاً، بينما حمام القصر فهو صغير نسبياً لكن عمارته تشابه عمارة الحمامات الدمشقية الضخمة فهو مؤلف من ثلاثة أقسام البارد والدافىء والحارأو ما يعرف بالبرانى والوسطانى والجوانى، وبالطبع يقع الحمام في قسم الحرملك وله قبة ذات عيون زجاجية.
في القصر ستة عشرة قاعة كبيرة وتسعة عشرة غرفة صغيرة في طابقه الأرضي، وكذلك ثلاث إيوانات كبيرة وأربعة أقبية وأربع برك متنوعة الأحجام والأشكال. وحوالي تسعة عشرة فسقية ماء (الشكل القديم لصنبور الماء) منها الأرضية ومنها الجدارية.
في عام 1952 ميلادية عملت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية على تحقيق فكرة إنشاء المتاحف الشعبية والبدء بتحويل قصر العظم إلى متحف للتقاليد الشعبية، وفي عام 1954م جمعت المعروضات من مختلف المناطق السورية عن طريق الإهداء والشراء ووضعت المجسمات وتماثيل العرض وافتتح المتحف بتاريخ 13أيلول عام 1954م
وقد سجل هذا المتحف، إقبالا كبيراً من المواطنين والأشقاء العرب ومن الزوار الأجانب وأصبح من أكبر المراكز السياحية في الشرق الأوسط حتى ليبلغ عدد زواره يومياً أكثر من أربعة آلاف شخص.
تحوي غرف وقاعات القصر اليوم تنويعة كبيرة من التحف والمقتنيات الدمشقية والتقليدية التي تحكي بمجملها قصة شعبية عن الحياة اليومية في البيت الدمشقي في تلك الفترة، قصة مشابهة لتلك التي تحكيها المسلسلات التلفزيونية عن الحارة الدمشقية القديمة بتقاليدها المتعددة، لا بل لا نبالغ إن قلنا أن تلك المسلسلات التلفزيونية وفي الكثير من تفاصيلها التي تحيكها عن الحياة اليومية كانت اعتمد على ما يظهره هذا المتحف الحي عن الأسرة الدمشقية ومقتنياتها وتقاليدها.
إذ تضم قاعات القصر اليوم معرضا لصناعة الزجاج اليدوية عن طريق النفخ وصناعة أطباق القش وخراطة الخشب مع نماذج من المفروشات الخشبية الدمشقية العريقة من صناديق وكراسى وقنصليات وكراسى للولادة والقباقيب الشبراوية والعرايسية المحفورة أو المطعمة والمنزلة بالصدف والعاج والقصدير.
كذلك يضم في أركان أخرى جناح لصناعة أطباق النحاس المحفورة والمنزلة بالفضة والذهب وجناح للمنسوجات النسائية والرجالية من عدد من المناطق السورية. كما يضم المتحف قاعة لمشهد يمثل حياة نساء دمشق اليومية وسمرهن وفيها تمثال سيدة جالسة أمام منقل نحاسي به دلة قهوة وهى تحتسى قهوتها أمام تمثال سيدتين تلعبان البرجيس وهى لعبة شعبية معروفة في دمشق القديمة.
كما خصصت قاعة فى المتحف لمقهى شعبى به مسرح لخيال الظل والكراكوزاتى وراء والحكواتي على منصته والتخت الموسيقي أمام الخيمة وفى جانب من القاعة مشهد لصندوق الدنيا أى صندوق الفرجة وشخصان يلعبان لعبة المنقلة.
وتحوى قاعة من قاعات المتحف نماذج من السلاح في سورية وبعضها يعود للقرون الوسطى ومن ذلك الغدارات والطبنجات المسدسات التي تقدح بحجر الصوان أو الكبسولة فضلا عن نماذج من الدروع والخوذ والدبوس ما يشبه المطرقة مدببة الحواف والرماح والسيوف الدمشقية وأغمادها.
ولعل من أجمل ما يحويه المتحف مشهد جلوة العروس بثوبها المطرز بخيوط الصرما والى جانبها صديقاتها يعزفن لها على العود وأمامها صندوق الزينة وصندوق المصاغ أو المدعو في لهجة أهل الشام (الشكمجية).
وفي خزائن القاعات مجموعات من الكؤوس وقوارير العطور والثريات التراثية وأطباق من النحاس المنزل بالفضة والكثير من المباخر والصناديق الحديدية المخصصة لحفظ الأموال.
وفي إحدى القاعات الكبرى يتموضع وسط القاعة محمل الحج الشامي الشهير الذي كان يحمل على جمل خاص كما يحمل العلم المدعو (السنجق) المعروض في القاعة نفسها على جمل آخر، ولقد صنع المحمل والعلم في دار الطراز الرسمية، في استانبول عام 1330 هـ وكذلك عرض في الوسط جزء من حزام الكعبة المشرفة من صنع مصر موشى بالآيات الكريمة. وفي يسار القاعة عرضت بعض الهدايا التي يعود بها الحجاج من الديار المقدسة وفيها مطرات زمزم ومسابح وخواتم وطاسات وكؤوس وأحجار كريمة متعددة. وفي الجانب الأيمن للقاعة عرضت بعض أدوات أصحاب الطرق كالمسابح الألفية والطبول وبعض الشارات كما عرضت لوحة فنية مشكلة من الطوابع البريدية.
أخيراً لا بد لزائر القصر الذي يرتفع بضعة أمتار عن بيوت دمشق المجاورة، أن يرتفع هو الآخر عن أرض الحاضر ليعيش ولو لساعات فقط في ارض الماضي، ارض الأجداد، ولا بد له عند مغادرته للقصر أن يحمل معه عبقاً دمشقياً حقيقياً، يستذكره أينما حل يمكن اختصاره بالتعرف على رمز آخر من الرموز الملتصقة بدمشق وأهلها…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفنان جورج عشي
تصوير الفنان جورج عشي بالأبيض والأسود