حسن سليمان بين صخب الشارع .. وصمت المرسم
ملامح وجه صارمة منحوته ، كتلة رأس مدكوكة فوق بنية قصيرة ربعة ، إذا سارت تسير ببطء حذر باتجاه واحد لا تحيد عنه إلا قليلا واليدان فى الجيبين ،عينان حادتان ، غائرتان ملاصقتان للحاجبين كعينى صقر ، فتشكلان مثلثين من ظل قاتم ، بينهما تقطيبة عميقة لا تفارق الحاجبين كجرح قديم اسفل الجبهة الضيقة التى يعلوها شعر كثيف خشن كجلد القنفذ سرعان ما غزاه الشيب، لكنه – رغم كل ذلك – قد يفاجئك بضحكة طفل برئ لا تخلو من شيطنة ، وهو يدبدب بقدميه عند استرجاعة موقفا طريفا وقع فية أحد الاشخاص ،على ان يكون هو الراوى وليس المستمع ، حتى يبهرك بما يروى !
هكذا يمضى الفنان حسن سليمان ( 1928ـ 2008 ) بلا مبالاة فيما يبدو ، عبر شوارع وسط القاهرة بالقرب من منزله ومرسمه ، اقرب الى شخصية نصفها مكتئب إنسحابى ونصفها الاخر بوهيمى أو عبثى آت من عصر قديم ، كان يعطى ظهرة أغلب أيام حياته لرفاق الفن والثقافة والنضال السياسى ضد الأوضاع السائدة التى لا يكف عن إعلان سخطة عليها ، حتى لو جمعه بهم مقهى أو حانه ، مخلص وجذرى حتى النخاع فى عدائه للإستبداد والتخلف والفساد والانتهازية، بدءا من مجال السياسة حتى مجال الثقافة ، مع حرص شديد على ألا يدخل حرباً ضدها الى جانب المعارضين مثله مكتفيا بالمقاطعة ، يرى أن الانغماس فى العمل العام ليس مهمة الفنان ، لكنه فى قرارة نفسة مرتعب من احتمال الزج فى السجن ، فوق أنه يشك فى دوافع ونوايا من دفعوا أثماناً غالية من حياتهم وأمنهم من أجل ما آمنوا به الشك عنده يتجاوز المعنى الفلسفى / الديكارتى بحثاً عن الحقيقة ، إلى الشك فى النوازع الانسانية فيمن حوله ومن يتولون اى مسؤلية رسمية جارح فى انتقاده لهم حتى السخرية المرة أو السباب ، وأقلها الاتهام بالتعاون مع المباحث ، على العكس تماما مما يبديه من ثقة فى البسطاء .. من باعة سريحة أو جالسين ، ومن عربجية وبوابين ، ومن خادمات وموديلات فقيرات ، واحيانا يولى ثقته لشاب هاو للرسم جاءه ليتعلم على يدية ، بشرط أن يجيد الاستماع والتنفيذ لكل ما يوكله من عمل بدون مجادله .
هؤلاء هم عالمة ، يسعى إليهم فى حوارى مصر القديمة والحسين والدرب الاحمر وعلى مقهى الفيشاوى وميدان السيدة زينب ، تستهويه خاصة بنت البلد الجريئة المتمايلة استعراضاً لأنوثتها وهى على استعداد لرمى نظرة او ابتسامة للمعجب ، بدون ان يظفر منها بوعد .. ما يعنيها هو إرضاء غرورها الأنثوى ، كما تستهوية المراة الشعبية بملابس المنزل الخفيفة وهى تنشر الغسيل خلال النوافذ والشرفات ، فياضة بما وهبها الله من فتنة، تكشف عنها وكانها تزكى عن جمالها .. عندئذ تفيض نفس حسن سليمان بالرضا والتسامح والإقبال على الحياة ، ويصل إلى ذروة التصالح مع نفسة ومع الاخرين . فى تلك اللحظات تتدفق قطعة الفحم الاسود بين أصابعة على ورق الاسكتشات لتسجل أروع لحظات التلاقى الانسانى .. اللحظات الحرة من اى قيد ولو كان فنيا ، تنساب أصابعة على سجيتها مشحونه برعشة الاكتشاف ودهشة المفاجأة وبساطة الفطرة وشقاوة الطفل إذ يختلس اللمس والنظر الى عالم الممنوعات ، او يفرح لأول مرة بمعرفة سر المراة .
تلك المشاهد النهارية المرسومة تحت اشعة الشمس، كانت تحيطها مسطحات شديدة التباين بين النور والظل عبر جدران وشرفات الحوارى والأزقة والأسواق والحقول، تعج بالبشر والخيول والحمير والابقار، وتتبادل المواقع والأدوار ، وتتراقص أحيانا على ايقاعات اجسام الغاديات والرائحات ، ومشنات الخضر والبائعات وعربات الكارو والقمامة ، ودكاكين النحاسين والأنتيكات ، ومشاهد العمل فى الحقل بالنورج والشادوف ، وكل ما تحفل به قاهرة المعز وأحياء العشوائيات وبيوت الفلاحين ، وما يصادفة من حاملات الماء فى الصفائح والقدور من الترع والطلمبات ، ومن مشاهد الحصاد فى جرن القرية . كانت لمساته الفنية- بعد عودته الى المرسم بحصاد العجالات المرسومة بالفحم ـ تحيلها بعبقرية من واقع تقريرى فوتوغرافى مستهلك إلى واقع جمالى مستحدث بقوانينة الذاتية ، فى ايقاعات موسيقية وتوازنات بين البقع والأشكال والنقط والخطوط والألوان والمساحات ، وفى بعض الأحيان ينتقل بهذه العناصر الى عالم خرافى يغوص فى التاريخ المملوكى ، مغلف بألوان رمادية / ترابية أو بدرجات الاخضر الجنزارى العتيق فى عجائن زيتية سميكة . اللوحة هنا لا تستمد جدتها من لغة الحداثة المستعارة من الفن الأوروبى بل من المفارقة بالغة التناقض بين هذا الواقع العتيق وبين العصر الحديث ، برغم كونها جزءا عضويا من الواقع الراهن هذا مع التسليم بانه اخذ من لغة الغرب الكثير وأبرزهم الفنان الايطالى مارينو مارينى ، خاصة فى لوحاته التى رسم فيها الزجاجات الفارغة وأظن أنها كانت تتم فى لحظات فقدان التصالح بداخله مع الذات والبشر والطبيعة ، حيث يرتد إلى الداخل : داخل صمت مرسمة وداخل عتمة ذاته ، فيعكف على رسم تشكيلات لا نهاية لها من هذه الزجاجات بين العتامة والشفافية ، يشكل منها غلى قطع القماش أو السيلوتكس ، تكوينات توحى بالأشخاص وهم يتحاورون او يتخاصمون أو يعانون الغربة .
وقريبا من هذه الحالة كان ينغمس فى رسم عشرات اللوحات للأوانى الفخارية الشعبية فى تكوينات متنوعة وتحت أضواء مباشرة من مصباح قوى ، تلقى ظلالاًعلى الأرضية التى تثبت فوقها فيصنع بذلك حواريات بصرية بين النصاعة والقتامة وبين المجسمات والمسطحات ، وقد يكرر نفس التكوين بنفس العناصر مرات ومرات ، مع اختلافات لا تكاد تلاحظ ، كتحريف طفيف فى كادرات رسوم أفلام الكرتون المتجاورة ، وتحار فى فهم الدافع لهذا المجهود وللوقت الطويل المبذول فى رسم كل تلك اللوحات المتشابهة بغير ملل حتى تظن انه يجاهد بحثا عن سر غامض من ورائها بغير طائل ، وكأنما يكمن السر داخل الظلال الكثيفة لتلك الأوانى الفخارية ، أو داخل كتل الطين قبل ان تتشكل بين يدى الحرفى فوق الدولاب الدوار ! وقريبا من هذه الحالة كذلك ، كان ينغمس فى رسم الموديلات العاريات من بنات قاع المجتمع، جاعلا منهن أشكالاً أقرب إلى الأوانى والزجاجات ،فى حالة من الجمود والثبات ، تكسو أجسامهن السمراء الشاحبة ظلال كثيفة تخفى انوثتهن وملامحهن الانسانية الا من شطفات ضوء على حافة الرأس والأنف وبعض اعضاء الجسم ، هكذا يبتعد تماما عن دوافع الغريزة او تجميد الجسد الانسانى ، بل يبتعد حتى عن الإحساس بالقهر الإنسانى للفتاه البائسة التى دفعها العوز للجلوس أمامة عارية كالتمثال لساعات متصلة ، ويقترب من حالة النفى او الانطواء او التشيؤ او الانسحاب فى جو من الصمت المطبق ، على العكس تماما من حالة فتيات الحوارى والاسواق وحاملات القدور ، وهن مستحمات بضوء الشمس !
فى كل من حالتى رسم الزجاجات والأوانى ورسم العاريات ، لم يكن شاغلة الأساسى فيما أظن هو البحث عن المعانى والمشاعر الإنسانية ، بل كان هو البحث عن سر ` الشكل ` عن الكمال والجلال الكافيين فيه عن ` روح الشعر ` المنبعثة منه لحظة الملامسة بين شعاع الضوء الشاحب القادم من بعيد ، وأسطح الكتل وهى تتناغم بين العلو والخفوت ، والمنبعثة كذلك من علاقة الأجرام بالظلال المولودة منها ، وهى ترتمى إلى جوارها او على جانبها الذى لا يصلة الضوء ، محدثة إيقاعا نغميا كانسياب الانغمام الوترية ، أو صدمة درامية صاخبة كدقات الطبول .
أليس هذا هو العالم النفسى للفنان حسن سليمان القائم على التناقض بين صخب الحياة فى الشارع وفى أحضان الحياة الشعبية، وبين الميل إلى الصمت والعزلة والانطواء على الذات ؟ ألا نستشعر فى الأولى وهج المحبة والتواصل مع الاخرين وعشق المغامرة الإنسانية الساعية إلى الذوبان فيهم، ونستشعر فى الثانية خوفا من هؤلاء ` الآخرين ` ورغبة فى التعويض عن دفء الجماعة ، بمصادقة الجمادات المطيعة للتشكيل زجاجية كانت أو فخارية- وبإخضاع دفق الحياة فى أجساد العاريات لسيطرة الرغبة فى امتلاكها وإبقائها فى حالة سكون مستلب الحياة والإرادة ؟
مأساة حسن سليمان تكمن فى أن هواه كان مع فكر اليسار وقواه المعارضة للنظام السياسى والمناضلة من أجل التغيير فيما هو عاجز عن الالتحام بها والتضحية فى سبيل ما يؤمن به ، كما تكمن فى أن هواه كإنسان هو أن يعيش الحياة ويعب من خمرها وعسلها ، فيما هو حريص ـ فى ذات الوقت ـ على الا يبتل ثوبه فى نهرها المتدفق وألا يدفع فواتير تجاربه مفضلاً السير على هامش التجارب بعيداً عن مجراها العميق، وأخيراً .. اراها ـ على المستوى الجمالى ـ تكمن فى أن تكوينة الفنى كان تكوينا أكاديميا صرفاً وأن مهاراته التقنية كانت تؤهلة للمضى فى هذا الاتجاه ، فيما كان يتمرد علية ويبحث عن صيغة حداثية معاصرة تبزغ أمامة أحيانا كعروق الذهب بين كتل الضخر ، لكنة يحاول استخلاصها بنفس الأدوات الأكاديمية ، بدون امتلاك القدرة على الإطاحة بها واستحداث أدوات جديدة .
والحق أنه حاول أكثر من مرة أن يفعل ذلك، ولدينا بعض الشواهد من أعماله يحاول فيها اللعب ` بالشكل ` المجرد، أو الاقتراب من التأمل الميتافيزيقى ، كلوحة الإانسان النائم عاريا فوق قمة جبل فى جو أسطورى ، ولوحة ` النورج ` وهى إحدى عيون الفن المصرى الحديث وتحمل ظلالاً ميتافيزيقية لفكرة الدوران الأبدى للثوريين فى مدار عبثى بغير نهاية حول تل القمح ، ويبدو الإنسان فيها نقطة ضائعة فى الفراغ ، وهناك لوحة الشاب ذى الدراجة المحطمة، ولوحات للفتاه المنتظرة فى الشرفة لقادم مجهول لا يجئ .. كما ان لدينا تجاربة فى الرسوم الصحفية بمجله الكاتب فتره الستينيات والسبعينيات ، التى استعان فيها بأسلوب الكولاج لعمل تكوينات تجريدية ، وتجرأ من خلالها باستخدام مسطحات لونية قوية يحاكى بها الأساليب التجريدية الغريبة .. إلا ان المحصلة النهائية كانت فى صالح الأسلوب الواقعى المباشر ، وهو الرسم بالنسب التشريحية والتجسيم الاسطوانى بالإاضاءة . واختيار وضع الجلسات الثابتة ، والألوان التى لا تكاد تبتعد عن ألوان الواقع المرئى .
لقد كان حسن سليمان مؤهلاً ـ اكثر من غيرة من فنانى جيلة والأجيال التالية ـ ليقود حركة تغيير قوية فى مسار الفن المصرى الحديث ، بثقافته الواسعة مترامية الأبعاد واقترابه الحميم من فنون وإبداعات أخرى مثل السينما والمسرح والكتابة والنقد , واتصاله المستمر بالحضارات الإنسانية واستيعابه لفنونها والأهم من كل ذلك ، بهضمة لمعنى الأصالة والمعاصرة وبضرورة البحث عن مدرسة مصرية للفن الحديث ،واستطاع بذلك كله اجتذاب كثير من الفنانين والمثقفين حوله ، وإن يكن على حذر، غير أن الدائرة لم تكتمل قط بينة وبينهم وكنت شخصيا أحد هؤلاء فى فترة مبكرة من حياتى الفنية ، لكننى ـ كأغلب الأخرين ـ لم أستطع الاستمرار ، بسبب تلك التناقضات النفسية التى أشرت اليها آنفا ، وبسبب حرصة الدائم على إقامة منطقة شائكة عازلة بينه وبين الآخرين ، ورفضة المطلق للتعاون مع أى مؤسسة رسمية أو مع أى من رموزها الشرفاء، بما يجعل من محبية ومريدية خونة له لو تعاونوا معها أو بحثوا لأنفسهم عن مكان على أرضها وكأنها ليست أرضا لكل المصريين لا لأعداء الوطن .
ومع ذلك ، فإن بوسعنا القول أن تلك التناقضات النفسية الحادة بداخلة هى التى أنتجت لنا رصيده الغزيرمن الإبداع حتى اواخر السبعينات من القرن الماضى ، بشقية التفاعلى مع الحياة والواقع،والآاخر المنعزل عنهما فى ظلال مرسمة المطل على نادى القضاة بوسط القاهرة ، وكلاهما يمثل إضافة خصبة بلاشك لتاريخنا الفنى الحديث، وأظن أن ما قدمه بعد ذلك من أعمال كان بمثابه إضافات كمية وترديدات مستعادة لنفس ألحانه القديمة ، باستثناءات قليلة مثل معرضة بقاعة الهناجر فى التسعينيات الذى يدور حول الفتاه التى تنشر الغسيل فوق السطوح ،ويبدو فى اللوحات نوع من التزاوج بين مرحلة تصوير الحياة الشعبية ومرحلة رسم الموديلات فى المرسم.
عز الدين نجيب
جريدة أخبار الأدب- 2014