إضافة 2 صورتين جديدتين من قبل أحمد العريبي.
ثروت عكاشة عسكرى بنى صروح الثقافة وأنقذ التراث .
في مساء الثامن من أكتوبر عام ،1958 خرج د . ثروت عكاشة من حفل في دار الأوبرا في روما، وأدار مؤشر الراديو على إذاعة القاهرة، وكانت الأخبار تحمل مفاجأة خاصة له، فقد كانت القاهرة تذيع قرار تشكيل حكومة جديدة تضم بين أعضائها اسمه وزيرا للثقافة والإرشاد القومي .
وبعد أربع وعشرين ساعة كان عكاشة يلتقي جمال عبدالناصر، وفي نيته الاعتذار عن رفضه المنصب، الذي لم يستشر في أمر إسناده إليه، وبعد أن قدم لعبدالناصر مبررات رفضه، ذكّره ناصر بأنه لم يكن يغادر القاهرة في مهمة سياسية خاصة، إلا وعاد بحديث مقتضب عن المهمة، تاركا التفاصيل للتقرير المكتوب، بينما كان عكاشة يطنب في الحديث عن النهضة الفنية في الخارج، وعما شاهده من عروض مسرحية وموسيقية وأوبرالية ومعارض فن تشكيلي وأحدث الإنشاءات الثقافية .
ودائما كان عكاشة يختتم حديثه مع عبدالناصر بأمنيته أن تتحقق مثل هذه النهضة في مصر، ولمزيد من الإقناع قال له عبدالناصر: لا أخفي عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءى في خيالي، وأذكر حديثنا قبل الثورة عن انحصار المتعة الثقافية، وبخاصة الفنون الراقية، في رقعة ضيقة، لا تنفسح إلا للأثرياء، وكيف ينبغي أن تصبح الثقافة في متناول الجماهير العريضة، وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية، لتبلغ القرى والنجوع، فمن بين أبناء هذه القرى الغائرة في أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ عدد من الفنانين الذين يعكسون في إبداعهم أصالتهم الحضارية .
تولى عكاشة حقيبة الثقافة، في وقت كانت تسمى فيه وزارة الإرشاد القومي، وكانت وظيفتها تنحصر في الدعوة لمبادئ الثورة والتعريف ببرامجها واتجاهاتها الاجتماعية والسياسية، وفي أوائل عام 1958 أنشئت مصلحة الفنون، وإدارة للثقافة والنشر، ومركز للفنون الشعبية، وبرنامج إذاعي يهدف إلى الارتفاع بذوق الجماهير في مجالات الأدب والفن والموسيقا، وكانت مدة إرساله ساعتين .
لم تكن الوزارة آنذاك تضم جهازا ثقافيا قائما، له تقاليده العريقة، سوى دار الكتب، ومصلحة الآثار، وكانت الخلاصة التي توصل إليها د . عكاشة، كما جاء في مذكراته: أمامنا طريقان لا مناص من أن نسلكهما معا، أولهما قصير والآخر طويل، ويرمي الطريق القصير إلى إمتاع المواطنين بالثمار العاجلة للثقافة التي تتنوع بين مسرحية جيدة وفيلم ممتاز ولوحة أخاذة وكتاب ممتع وبحث شائق، إلى غير ذلك من ثمار الثقافة، أما الطريق الطويل فيقصد إلى تنشئة جيل، تنضج على يديه هذه الثمار بإنشاء المعاهد الفنية لتخريج الفنانين المبدعين، فمهمة الدولة هي استكشاف المواهب في كل حقل ورعايتها وتيسير السبل أمامها للخلق والإبداع، هذا إلى جانب إقامة المشروعات الثقافية الكبرى، التي لا يقوى عليها الأفراد، والهدف دائماً هو رعاية الوجدان القومي وتغذيته وتنميته، توطئة لإعداد الإنسان المنتمي المعاصر، والمواطن المستنير البصير بمصالح نفسه ووطنه والإنسانية جمعاء .
منذ اليوم الأول لتوليه مهام عمله اتصل د . عكاشة بكبار المثقفين في مصر، حتى لا تكون سياسة الوزارة فوقية، لا مشاركة فيها للأفراد، فدعا إلى مؤتمر عام في مارس ،1959 وتواصلت جلسات الحوار بين المثقفين، وكان من نتاج هذا المؤتمر أن تكشفت الرؤية الثقافية على لسان جميع الفئات .
وتأكيداً لهذا يمكن الاستعانة بشهادة المفكر، د . فؤاد زكريا، ويقول فيها: إن الثقافة في عهد الثورة كانت في الواقع تشكل جزيرة منعزلة إلى حد ما عن بقية جوانب النظام، وكان ذلك يرجع أساسا إلى وجود شخصية قوية هي شخصية د . ثروت عكاشة، فهذا الرجل كان من ناحية واحدا من أبرز الضباط الذين قاموا بدور أساسي في ثورة يوليو، وكان من ناحية أخرى عاشقا حقيقيا للثقافة، فتمكن بفضل قوته ونفوذه من أن يلقي ظلا من الحماية والرعاية على المثقفين، ويضمن لهم قدرا لا بأس به من الحرية، ويحميهم من كثير من الشائعات والوشايات التي كان من الممكن أن تلحق بهم ضررا كبيرا لولا وجوده .
أدى د . عكاشة إذاً دوراً كبيراً في ضمان جو آمن إلى حد معقول للمثقفين، وكذلك ضمان قدر كبير من رعاية الدولة بسلطتها وأموالها للمشروعات الثقافية، وهو ما أكده نجيب محفوظ عمليا حين ذكر في أحد الحوارات التي أجريت معه: من أصعب المواقف التي صادفتني في حياتي أزمة رواية ثرثرة فوق النيل، فلقد بلغني أنها اعتبرت لدى السلطات وقتها تجاوزا يجب تأديبي عليه، لولا الدكتور ثروت عكاشة الذي كان وزيرا للثقافة أيامها، ودافع عني عند عبدالناصر، لكانوا قد عاقبوني فعلاً .
كان د . عكاشة يؤمن بأن الثقافة الإنسانية ليست ملكا لفئة دون أخرى، وأن المثقفين ليسوا إلا أمناء عليها وحملة لها، وهم مكلفون إيصالها إلى مواطنيهم، لأن الثقافة لا تعيش إذا قطعت عن جذورها، وبقيت سجينة بضع صفحات، وعودة الثقافة إلى الجماهير هي وسيلة إلى تنميتها وازدهارها .
وكان يؤمن بأن الريف يحمل بصمات ثقافة قديمة، تتمثل في احتفاظه بكثير من آثار الرقص والمباريات والتمثيل والموالد والأفراح والبكائيات وأغاني الحصاد، التي كانت سائدة منذ القدم، ومن هذا المنطلق سعى د . عكاشة إلى المزاوجة بين ثقافة عصرين، ليصبح الريف نقطة التقاء تتفاعل فيها الثقافة القديمة والحديثة، والعالمية والقومية، وبدءا من عام 1959 شرع في إقامة قصور الثقافة، وبث قوافلها في مناحي الريف البعيد .
وفي العام ذاته أعد د . عكاشة خطة خمسية للعمل الثقافي، تشمل إقامة المتحف المصري ودار الأوبرا الحديثة ودار الكتب الجديدة، واستكمال بناء مسارح، ومتاحف في الأقاليم، ومراكز للحرف الشعبية، وعرض الآثار بالصوت والضوء، والسيرك القومي، وداراً لعرض الفنون التشكيلية، وغيرها من مشروعات، لم يمتلك الوقت لتنفيذها، فقد ترك الوزارة في الأول من سبتمبر ،1962 قبل دمجها في وزارة الإعلام والسياحة .
وفي محاولة لإنقاذ آثار النوبة سنة 1959 ابتكر د . عكاشة فكرة عرض الآثار المصرية في الخارج، جزءاً من حملة الإنقاذ، فأوفد أول معرض تحت عنوان 5 آلاف سنة من الفن المصري طاف عواصم أوروبا، وفي عام 1961 أوفد قطع توت عنخ آمون إلى أمريكا، وكان هذا المعرض كفيلا بإقناع أمريكا للإسهام في إنقاذ آثار النوبة، رغم الخلاف السياسي بينها وبين مصر .
منقول