http://www.arb-photo.com/

صورة من ايام زمان – الناقد الفوتوغرافي العراقي جاسم عاصي

البداية
انظم لاسرة تحرير صحيفة عرب فوتو الناقد الفوتوغرافي العراقي الاديب جاسم عاصي  لتكون قراءته  النقدية للنصوص الفوتوغرافية  بين ايديكم*

صورة من أيام زمان
مقدمة كتاب العصا والضوء
بقلم الناقد جاسم عاصي
العراق
ما زلت أتذكر ، في مطلع خمسينيات القرن المنصرم ، لحظة أن قادني أبي قبل الدخول إلى المدرسة الابتدائية ، باتجاه مصور الكاميرا البوكس ، الذي يتخذ من الرصيف أستوديو  له . أجلسني على صفيحة دهن صغيرة واطئة ، ثم راح يعمل بدأب في صندوقه المحكم ، ذي الخرطوم الأسود المصنوع من القِماش . دام هذا طويلا ً في حساب زمن الدهشة والرعب الذي كنت أعيشه تلك اللحظة ، ورعب والدي الذي طلب مني عدم الحركة ، وحتى أن أرمش بعيوني . بعدها طلب المصوّر مني الانتباه والتحديق في عين زجاجية أشار  لي بإصبعه ، . بقيت لزمت الصمت والاتزان ، وانكمشت على نفسي حد قطع النَفَسْ  . مد يده في البوكس ، وأخرى كانت تحمل شيئا ً سرعان ما أغلق بها العين ، ثم فتحها وطلب مني النهوض من مكاني . اصطففت مع أبي لائذا ً ومنتظرا ً ، ورحيم المصوّر المرتخي عضلات الوجه ، يعبث بصندوقه  ، مدخلا ً رأسه في الخرطوم ، أخرجه وراح يعالج أمرا ً بيده الداخلة في القِماش الأسود الأنبوبي . ترك كل شيء ، وفتح مجـّرا ً إلى جانب البوكس ، فيه قليل من الماء ، تسبح فيه قطعة ورق كسمكة صغيرة . أخرجها بعد أن قلـّبها مرارا ً في الماء ، كانت نهايات أصابعه مائلة إلى الدكنة ،كما لو أنها تعرضت لحرق نار ، معلـّقا  خشبة على مقدمة الكاميرا ، لصق الورقة بالمقلوب عليها ، ثم أغلق العدسة بغطاء ، وأبقاه أمام الورقة لثوان ، ثم فتحها وأغلقها ، بعد أن أغلق المجر ، وأنا مكبّل بالرعب ، وبدقائق قليلة ، لكني أحسست بثقلها عليّ ، وهو يعبث بالداخل من خلال الخرطوم ، حتى فتح المجر مرة أخرى ، مقلـّبا ً ورقة أكبر من التي قبلها  ، مقلـّبا ً إياها عدة مرات ، بعد ذلك  رفعها وعلـّقها على خيط متين ثـُبت على عموديين بقراصّة خشب ، راحت تدور وتتقلب بفعل الهواء ، حيث بانت صورتي واضحة مكررة أربع مرات . بعدها هدأ قلبي ، بينما الخوف بدأ ينسحب تدريجيا ً ، مثل عَرَقٍ إثر قيض لافح ، تبدده المروحة تدريجا ً . شعرت ببرودة لذيذة تمسح جسدي ووجهي …
هذه الحالة واكبتني إلى الآن وأنا أقلـّب صور الفوتو التي أمامي ،منبهرا هذه المرة بدقة الفن وجماله وحساسيته ، مما دفعني لتعلم قراءة الصورة تماما ً مثل قراءة صفحات الكتب .

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.