المصور والحرب
فاضل عباس هادي
بالنسبة للمصور الفوتوغرافي، المهم هو «أن يكون هناك » في موقع الأحداث، على خط النار في خضم المعركة. لا ليسمع هدير المدافع ودوي الرصاص فقط، وإنما ليصور الصراع الدامي، لا من أجل الكسب الشخصي ولا من أجل أن يقال عنه إنه قام بعمل بطولي، وإنما لأنه،
ببساطة مدفوع بقوة أكبر من مقدرته الشخصية على المقاومة والرفض، قوة لا تستطيع أن يفتت جبروتها عليه وسطوتها وسلطتها غير المفهومة من أن يكون هناك في موقع الأحداث، هكذا بكل بساطة، لا بد أن يكون هناك.
المصور البريطاني دون ماكولين يعتبر حاليا أشهر وأهم مصور حربي في العالم مُنح درجة ماجستير فخرية من الجامعة البريطانية الحرة المعروفة، بعد أن حصل في وقت سابق على «وسام الإمبراطورية » من الملكة اليزابيث الثانية بالذات. هذا المصور البارع والجرئ الذي قضى أكثر من أربعين سنة في تصوير الحروب والمجاعات في فيتنام وبيافرا وبيروت وقبرص والكونغو وكمبوديا وأيرلندة وصور المشردين في المدن البريطانية الكبرى.
قصته هي أفضل وأقوى مدخل لعلاقة المصور وكاميرته بالحرب ومآسيها.
في كتاب صدر أخيرا في السلسلة الفرنسية «فوتوبوش » كتاب الجيب الفوتوغرافي الممتاز الذي تصدره بانتظام وزارة الثقافة الفرنسية بالتعاون مع المركز الفوتوغرافي الوطني الفرنسي. نقرأ أن «دون ماكولين يجازف بحياته ويتعرض للموت من أجل تصوير موت الآخرين. إنه دائما هناك، يعرف تماما بأن الحرب جحيم. صوره لها جمال التراجيديات الإغريقية القديمة تعبر عن الرعب والعبث. الطفل الجائع لا يستطيع البكاء والجندي الذي بقرت بطنه لا يستطيع أن يصرخ بالنيابة عنهم ».
يلاحظ أن مقدمي الكتاب أشاروا إلى الجمال رغم أن الموضوع يتعلق بالحرب والدمار. قالوا جمال التراجيديات الإغريقية القديمة، وبلباقة، بحيث أن السياق ووجود الجمال كمفردة فيه يبدو طبيعيا تماما. اللغة الفرنسية وحدها تبدو فيها هذه اللغة طبيعية وغنائية بدون أن نشعر بالعبء الأخلاقي الذي تحمله لنا شوكة العقلية الإنكليزية المعنية كثيرا بالجانب الأخلاقي على حساب الاعتبارات الأخرى. ماكولين نفسه يفضل استعمال تعبير «صور قوية » بدلا من تعبير «صور جيدة ».
ولا نظن انه يعترض على وصف صوره بالجمال خاصة بعد ربطها بالتراجيديات القديمة. إن الأعمال أمامنا الآن نراها ونتأملها ونعود لها. لم تجرد بالطبع من مأساويتها ولا من الحرقة الداخلية التي تسببها في المشاهد.
أنها نتاج الصدق والإصرار على عرض الحقيقة، والحقيقة مهما كانت قاسية لا تخلو من الجمال بالتأكيد. وهي حصيلة رجل معدم، ذاق مرارات الفقر في لندن منذ ولادته في العام 1935 في أحد الأحياء الفقيرة. أبوه كان يعاني من الربو وأمه كانت تضطر إلى القيام بالأعمال اليدوية المرهقة لتأمين الخبز لها ولزوجها وابنيها. ولم يكن عند المصور في سنوات الدراسة الابتدائية إلا قميص واحد يلبسه كل يوم ليذهب إلى المدرسة. الحارة التي عاش بها كانت مليئة بالأشقياء الفقراء مثله. في الخامسة عشر التحق بالقوة الجوية البريطانية وبعد تسرحه اشترى كاميرا «روليكورد » ذات العدستين. صور بها عصابة من أشقياء المحلة على سبيل اللهو فاقترح عليه أحد ما أن يرسلها إلى صحيفة «الأوبزرفر » المشهورة. ذهب بنفسه إليها وعرضها مباشرة على المسؤول عن قسم الصور هناك فقبلها بالحال ودفع له خمسين جنيها وهو مبلغ كبير جدا يومها، وفّرت له فرصة الزواج. ونقرأ في سيرة ماكولين الذاتية الصادرة بالإنكليزية بعنوان «سلوك غير معقول » أنه ذهب مع زوجته لقضاء شهر العسل في باريس. هناك جلس في مقهى معها وبينما كان يتصفح إحدى المجلات الفرنسية شاهد صورة جنود ألمان شرقيين على الخط الفاصل بين شطري برلين، فقرر في الحال الذهاب إلى برلين، وعاد منها بصور لبدء عملية بناء جدار برلين نشرت في «الأوبزرفر » فورا فبدأ اسم دون ماكولين بالسطوع. ثم جاءت الحرب الأهلية في قبرص والتي غطاها بجرأة لا مثيل لها، فحصل على جائزة الصحافة العالمية للعام 1964 . كانت قبرص هي الحرب الحقيقية الأولى التي غطاها المصور وهي التي وضعته على خط النار المباشر في عدد كبير من مناطق العالم الملتهبة في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية.
يقول ماكولين: معظم الناس عندهم صورة هوليوودية عن الحرب، صورة ترسخت في الأذهان عن طريق السينما. أما أنا فقد أردت تصوير الحرب على حقيقتها المأساوية الكريهة. ولمدة عشرين سنة لم أرفض دعوة للذهاب إلى الحرب أو المشاركة في ثورة. لماذا؟ مثلا قضيت سنوات عديدة في فيتنام.
أستطيع أن أحس بالسبب. إلا أنني لا أستطيع التعبير عنه. ويضيف: «التصوير متوفر للجميع وفي متناول الكل، إلا أنه في الوقت نفسه ليس ملكا لأحد دون غيره. أصبحت الكاميرا بالنسبة لي إدمانا لا
أستطيع التخلص منه. وأشعر بالارتياح والتوازن النفسي كلما نظرت من مع المنظر Viewfinder في الكاميرا.
إني لا اختلف عن البشر الآخرين، إلا في نقطة واحدة وهي أني أريد أن أرى ما لا يريدون أن يروه. هذا الموقف لا يخلو من نزاهة. كما أن صوري لها جانب ديني أيضا حيث ترى في بعض الصور أن الناس ينظرون إلى أعلى إلى السماء لأنهم يعتقدون بأن الخلاص يأتي من هناك. لا أريد أن أحمل على كتفي جميع آلام البشرية. أريد أن أكون صاحب رسالة، ووسيطا بين الحقيقة والبشر.. .»
ومن الجدير بالذكر أن دون ماكولين أراد أن يغطي حرب الفولكلاند إلا أن وزارة الدفاع البريطانية رفضت طلبه وبعثت بدلا منه طاقماً صغيراً من المصورين التقليديين لأنها كانت تخشى أن تؤثر صور ماكولين القوية على معنويات الجنود والرأي العام البريطاني. إلا أنه أفلح في تغطية الحرب اللبنانية والغزو الإسرائيلي وعاد بصور تدين الكتائب والمجازر التي قام بها اليمين اللبناني ضد الفلسطينيين وكانت هذه الحرب هي آخر الحروب التي غطاها ماكولين الذي يعيش حاليا حياة هادئة إلى حد كبير في بيته الريفي ويقتصر في عمله الفوتوغرافي على تصوير «الطبيعة الصامتة » بكاميرا تقنية من القطع الكبير. وقد حاز مرتين جائزة «أفضل مصور في العالم ».
* من كتاب… ولا تنسَ بأن السيدة”لايكا” تنتظرك بالبيت المعد للطبع قريبا.
ــــــــــــــــــــــ
جريدة تاتوو » الأخبار » اقسام الجريدة » متابعات