كتبت- دعاء الفولي:
”ومن الصورة.. حياة” تنبض بين جنباتها القلوب، تدمع لجلالها الأعين، تندهش لتفاصيلها الذاكرة، ”شوف” ذلك المعرض الذي قرر القائمون عليه أن يتخذوا من الفوتوغرافيا وسيلة تعبر عن أفكارهم ومبادئهم في الحياة وإن جاؤوا من خلفيات مختلفة.
صالة فسيحة منقسمة لعدة أجزاء موزعة على طابقين، أُناس يدلفون للمكان، آخرون تسمرت أعينهم أمام الصور، يقرأون ما كُتب بجانب المعروضات، أما المصورون، فانشغل بعضهم باستقبال الوافدين، يُحدثونهم عن مجهود عام أو أقل من العمل، تشير أيديهم لتلك الصورة لتوضيح معنى، أو إبراز تفاصيل مختلفة.
في ”أتيليه القاهرة”، تراصّت الصور، كل مجموعة تُكون قصة جديدة، من خلال ”شوف” رصدوا ما رأته أعينهم، قصصا من مصر كما يقولون، يجمع بين مصوريها صداقة، دفعتهم للتعلم من تجارب بعضهم أثناء العمل عليها.
صبري خالد: في حضرة الشهداء
من ”عاطف يحي” بدأت الحكاية، شاب بسيط ضمن المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيلية عام 2011، اُصيب برصاصة في الرأس، منتقلا إلى مرحلة المعاناة المرضية، من محاولة توفير دواء للشفاء، إلى الانتقال للرفيق الأعلى، لتستمر رحلة من عانوا فراقه حتى اللقاء.
صورة كبيرة بها فتاة، تنظر خارج شباك يشع نورا، يُلقي على وجهها جمالا زائدا، رغم الحزن ”اللحظة اللي شفت فيها جثة كريم غيّرت حياتي للأبد” كلمات كُتبت لجانب الصورة، قالتها ”ياسمين”، أخت الشهيد ”كريم خُزام”، الذي شهد مذبحة استاد بور سعيد بشهر فبراير 2012، وقصص كثيرة أخرى لا ينقصها دائما إلا بطلها، يبقى الأهل داخل الصورة، تتفحصهم عيون المشاهدين، لولا تجمد الزمن عند نقطة معينة، لبكى الناظرون لحكاياتهم، كما بكى المصور كذلك.
صداقة قوية جمعت الشهيد ”عاطف يحي” و”صبري خالد” المشارك في المعرض، بقصة تحت عنوان ”صدفة غريبة”، فيها من التفاصيل عن وجع المصريين الذين فقدوا ذويهم داخل البيوت ”كان فيه صور كتيرة عن كده، لكن المكان مسعش”. أخ أمسك صورة أخيه، يرفعها لُترى جيدا، ظهورها في الصورة أهم منه ”صوروني مع صورته”، قال شقيق المجند ”شافعي” المفقود منذ 30 يناير 2011، لـ”صبري”. بينما تمتلئ صورة أخرى بنسوة يرددن ترنيمة حزينة كمدا على فراق أبناءهم في حادث كنيسة الوراق 2013.
من داخل غرفة جابر جيكا تبدو تفاصيله مستقرة؛ صوره، شهادات تقدير، قناع فانديتا، لافتات تنعيه، نافذته التي لم يعد يطل منها حين ينادي صديق، فيما يقبع رفقاء الدرب أسفل المنزل ينددون بحقه الذي ضاع دون مجيب.
بين الصورة والصورة، حياة اٌهدرت، وعزيز فُقد، ودموع لم يستطع ”صبري” كتمانها احيانا ”بكيت لما دخلت بيت الشهيد أحمد صالح”، فمنذ استشهاده في احداث محمد محمود الأولى، لم يبرح والده مظاهرة إلا وخرج فيها كي لا ينساه الثائرون.
روبير: العطاء لا يعرف عمر
كنسمة هواء باردة صيفا، دافئة شتاءا كان هو، لا يفعل شيئا ليأخذ مُقابل، يعرْفه تلاميذ مدرسة ”دي لاسال” بحي الظاهر بالقاهرة، منذ خمس وأربعين عاما لم يبرح أرضها، بدأت حياته داخلها كُمدرس للفيزياء والرياضة، تحول فيما بعد لمسئول المكتبة التي أرادت المدرسة التخلص منها، لكن عمله كُمدرس يساعد الطلاب عقب يومهم الدراسي في المذاكرة، كان مستمر.
”اما كنت طالب في المدرسة كنت بشوفه دايما بيساعد الناس في أي حاجة” قال ”جورج محسن”، صاحب القصة الأولى في معرض ”شوف”، اشترك مع أخيه التوأم ”صمويل” لتنفيذها، لم يستعينا بشخصية بعيدة، بل عايشوا يوما في حياة ”روبير سولومون” الذي وُلد لأم أرمينية وأب كلداني، وناهز السبعين من عمره.
اعتاد ”روبير” القدوم للمدرسة قبل ساعة من ميعاد الدراسة، ماكثا حتى انتهاء اليوم، وانقضاء ساعتين إضافيتين؛ ”كان بيذاكر للطلبة”، وعندما طلبت منه المدرسة أن يبدأ في فرز المكتبة العريقة بها، لم يرفض، فأخذ يُقسمها، ينفض عنها الأتربة، يأتيه التلاميذ في إجازتهم الرسمية ليساعدوه، كما فعل معهم من قبل.
وكالأشياء الجميلة التي يجب أن ترحل، كان ”روبير”: ”جه وقت التقاعد”، على حد قول ”جورج”، بعد أن قضى أكثر من خمسين عاما يخدم المدرسة دون مُقابل يُذكر، لم يهتم أن تظهر عليه حياة الترف ”كان زاهد رغم إن مستواه عالي، وبيحب يركب الأوتوبيسات”، ترك خلفه مكتبة تعوّد أن يُنظم محتوياتها، تلاميذ يجمع لهم الكتب القديمة ليذاكروا فيها إشفاقا بحالتهم المادية، وأشخاصا رأوه حُلْما طيّب اوقات الآخرين.
هبة خليفة: من الداخل
امرأة تبدو في الصور كأي أنثى مصرية، الجهد اليومي ضيفا ثقيلا عليها، ما بين العمل وتربية ابنتها ”ورد” ذات العامين، تُحاول التعايش مع الوضع، ولا تستطيع أحيانا، فتصوّر نفسها وهي تأكل ”زلط”، تعبيرا عما تتناوله من المتاعب، تتعامل مع منغصات الحياة اليومية بابتسامة بدت زائفة، رسمتها على ورق مقوى ووضعتها على فمها، ثم التقطت صورة أخرى لنفسها.
”هبة خليفة”، المصورة الصحفية بجريدة الشروق، كانت بطلة قصتها، جسدت فيها معاناتها اليومية كأم، ”يقولون إن الجنة تحت أقدام الأمهات.. ولا يتكلم أحد عن الأمومة المقيدة”، أصعب ما مرت به ليس التجربة بقدر تصويرها ”كنت خايفة التعبيرات متطلعش مظبوطة”، كلفتها التجربة عاما كاملا، مئات الكادرات، والعديد من الأخطاء والتجارب، لتخرج القصة بشكلها الذي يبدأ بصورة لها مع ابنتها وهما مقيدتان بشريط لاصق سويا، وتنتهي وهي تحاول ترتيب الملابس النظيفة عقب غسلها. ثم تدور الدائرة ”القصة ملهاش نهاية هي دائرة حياتية مش بتخلص”.
تفاعل النساء مع قصة ”هبة”، يعرفنها جيدا ويمررن بها، تفاوتت ردود أفعالهن، ما بين ”واحدة لطمت على وشها من كتر السعادة أما شافت الصور”، وأخرى وقفت تفُكر قليلا عقب رؤيتها القصة، ”نفسي أمي تيجي هنا تشوف المعرض.. لو جت كان فيه حاجات في علاقتنا كتير هتتغير”. اختبرت ”هبة” جيدا إرهاق الأمهات، حتى أنها أخذت صورة الأكل من طبق ”الزلط”، على ”مفرش” والدتها القديم ”دليل على توارث العادات من جيل للتاني”.
شارع الجمهورية حيث تقطن ”هبة”، مسرح لأحداث أخرى، فكأنما التظاهرات في منزلها، بينما وضعت قناعا ضد قنابل الغاز المسيل للدموع وهي تطبخ، لتُعبر عما يحدث لها، او أثناء ارتدائها قناع ”فانديتا” توضيحا لعدم قدرتها على السير في تظاهرات والمشاركة بأحداث سياسية بسبب الطفلة والمنزل.
التعليقات الذكورية لم تكن كلها جيدة ”فيه رجالة قالولي هو احنا وحشين أوي كدة يعني”، في حين أنها اختارت نفسها للتعبير عن شقاء المصريين ”من المنصف إن الموضوع يبقى على الرجالة والستات، كلنا في الحياة بنعاني بطرق مختلفة، لكن حالتي مجرد مثال”.
علي هزاع: بيني وبينك سور ورا سور
”أعملوا حيطة” عقيدة آمنت بها الحكومات المتتالية عقب الثورة؛ عسى أن تمنع جموح المصريين، فيما كان أفراد الشعب دوما أصحاب خيال اوسع من حاكميه، ”علي هزاع” أفرد قصته المصورة عن تلك الحواجز التي شلت الحركة في وسط البلد فيما تناوب عليها الناس كلا حسب توجهه؛ فها هم مجموعة شباب يجاهدون في إسقاط السور، ورجل ينظر من ثقب كي يمعن في أحد القادمين لزيارته، وثالث يقفز كأنها لعبة يومية، فيما يستقر ”اسطى سمكري” على جدران سور اتخذه قطعة من ورشته وكأنها حدود محله الجديد.
دينا وصديقاتها: الغناء ثورة
كانت لكل منهن روح موسيقية، إحداهن ”يسرا الهواري” عازفة ”الأوكورديون”، بينما تؤلف ”ياسمين برماوي” اللحن، وتغنيها ”دينا الوديدي” على عزف ”نانسي منير” وتشاركهما ”مريم صالح”، قد تكون كل واحدة تفعل شيئا جديدا، جمعهن الاختلاف في ما يقدمنه.
لم يعد إرث الغناء المعتمد على بقاء المطرب أعلى المسرح والجماهير تستمع فقط، موجودا، الفتيات التي استعانت بهن المصورة ”راندا شعث”، إحدى المشاركات في المعرض، تعتقد أنهن يُشبهن الجمهور بشكل ما ”مفيش فرق بينهم وبينا.. هما بينزلوا مظاهرات وبيتبهدلوا ويتعبوا ومكانش عندهم مشكلة يشتغلوا على مسارح صغيرة محدش يعرفها.. حتى لما اتشهروا بعد الثورة” تحكي ”راندا” عن بطلات قصتها اللاتي اعتبرتهن شخصية واحدة.
بنتان تستعدان قبيل حفلتهما الغنائية، ”أوكورديون” على مقعد خالي ينتظر صاحبته، صديقتان جمعتهما حفلات كثيرة، نامت إحداهما متكئة على قدم الأخرى تعبا، لحين موعد الخروج للجمهور، مشاهد يومية التقطتها المصورة للبطلات، ينحتن فيها الحياة لتقديم ما يحببنه ”الحاجة المشتركة بينهم هو التحدي في إنهم يعملوا اللي عايزينه ولو بإمكانيات بسيطة”.
تسعة أشهر كان الوقت الذي استغرق صاحبة القصة كي تُكملها ”على آخر القصة كنت بقيت صاحبتهم.. احنا شبه بعض.. هما بيقاوموا بالفن وأنا بقاوم بالتصوير”.
زياد حسن.. الأراجوز
القصة الأخيرة لـ”زياد حسن” تحكي عن فكرته التي بدأت مع عرض لإحدى فرق العرائس عقب الثورة، عايش دورة اجتهادهم؛ الصناعة، التدريب، الفن، ومن ثم البهجة.. كيف تقاوم الثورة الاستبداد بمجموعة من الدُمى، كيف يتدرب مجموعة من الشباب على السير فوق أرجل من الخشب ممثلين لرموز أجهضت الثورة، كيف تنتشي الوجه المنخرطة في الاندهاش جراء العرض، كيف تصنع قصة مصورة لمجرد حالة واستهوتك، هكذا يخبرك ”زياد” ومعه أبطال ”شوف”.