فاطمة ناعوت
لماذا كانوا وسيمين؟.. لماذا كنَّ جميلات؟
أكتب لكم اليوم، السبت ١٣ أغسطس، ذكرى رحيل أبى. وكنوع من إحياء ذكراه، كتبتُ على صفحتى ما يلى: «زى النهارده صعد أبى للسماء. كان رجلاً جميلًا نادرَ الوجود، لا يتكرّر كثيرًا. متصوّفاً: يحفظ القرآن كاملاً، ترتيلاً وتجويدًا. ذواقّة: مُغرم بصوت عبد الوهاب وأم كلثوم وصباح وفيروز.
عاش عمره يعشق أمى، ويحبُّ كلَّ الناس.
ومات دون أن يظلم أحدًا.
الله يرحمك يا بابا». ونشرتُ مع البوست عدة صور له بالأبيض والأسود مع أمى الجميلة، رحمها الله، تحملنى فوق ذراعيها طفلةً فى شهور عمرى الأولى. كتب الأصدقاءُ آلاف التعليقات المُعزّية، وأمنيات الرحمة له ولجميع موتانا، وأن ما مات مَن أخلف أبناء يشبهون آباءهم، وغيرها من التعليقات الطيبة. لكن ما لفت نظرى هو توقّف معظم التعليقات عند أناقة أبى وأمى فى الملبس، وجمال ملامحهما، شأنهما شأن جميع الآباء والأمهات فى ستينيات القرن الماضى، وما قبلها. الصورُ بعدسة المصوّر الأرمنىّ العالمىّ «ڤان ليو» Van Leo، وكان من أشهر المصورين الفوتوجرافيين فى تلك الآونة ورحل عام ٢٠٠٤ بالقاهرة. التقطت عدستُه أجملَ صور المشاهير المصريين والعالميين. واشتُهر باللعب بدرجات الظلال وومضات الإضاءة؛ فخرجت من بين يديه صورٌ بديعة عالية الفن، كأنما هى تابلوهات مرسومة بالفحم. وأشهر صورة لعميد الأدب العربى د. طه حسين كانت بعدسته. وهى الصورة الرسمية للأستاذ، حيث يختفى نصفُ وجهه تحت طبقات الظلال، فيما يشرق النصفُ الآخر بأشعة الضوء والوهج.
كان أبى رجلاً وسيمًا، وكانت أمى سيدة ساحرة الجمال. وكانا أنيقين، شأن ذلك الجيل الأنيق. هذا ما توقّف عنده المعلقون على صفحتى، حيث راحت عيونهم تُفتِّشُ فى جنبات الصور عن مصر الجميلة، التى لم يعد من جمالِها إلا بقايا خافتة نلهجُ إليها فى أفلامنا القديمة: بالأبيض والأسود. من بين المعلقين رسّامٌ مصرى يعيش فى بريطانيا اسمه «حمدى سليمان»، كان قد رسمنى فى أحد أجمل البورتريهات التى رُسمت لى. تنتمى ريشتُه للمدرسة التنقيطية Pointillisme ابنة المدرسة التأثيرية، التى يعتمد تكنيكها على ضربات الفرشاة الملوّنة فيتكون نسيجُ اللوحة من قطرات اللون والضوء. استوقفنى تعليقه الذى كان مُلهمًا لهذا المقال. كتب معلّقًا على صورة أبى مع أمى: «أحببته من ملامح وجهه. لسبب لا أفهمه، أشعر أن ملامح الوجه المتناسقة تلك، بدأت تختفى من مصر! هل لأن الحياة اليومية تشكل ملامحنا؟». صدمنى السؤال! فاجأنى! لم أفكّر أبدًا من قبل أن ملامح وجوه الناس، فى مجتمع ما، تتبدّل مع الزمن جيلاً بعد جيل، بسبب ما يتعرضون له من ضغوط اجتماعية وأزمات سياسية واقتصادية. قد تتبدّل الملابسُ وفق الموضات ووفق الشرط الاقتصادى بين عصر وعصر، ولكن: هل تتبدّل الملامح والقسمات الجسدية أيضًا؟! ولمَ لا؟! أليس الإنسانُ مرآةً عاكسة لما حوله؟ وربما يفسّر هذا ظاهرة أن معظم آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا كانوا يشبهون أولئك الذين نشاهدهم فى جمهور حفلات أم كلثوم، فنحزن على ما وصلنا إليه الآن من تدهور حادّ فى الذائقة الفنية والجمالية فى الملبس والسلوك والمفردات، بل الإيماءات وأسلوب السير والجلوس وتناول الطعام والتعامل مع الآخر. كان المصريون فى ذلك الوقت يُصدَمون إن وجدوا ورقة مُلقاةً على الأرض. كانت السيدات يسرن فى الشوارع بفساتين شانيل أنيقة وكعوب عالية، فلم يكنّ يعرفن شيئًا عن التحرش والبذاءات ولا عن اختفاء الأرصفة تحت أقدام الأكشاك الخشبية ولا عن إشغالات الطريق بالمتسولين والنشالين، ولم يشهدن الحُفر والنُقر فى الشوارع ما يستحيل معه «ارتكاب جريمة انتعال حذاء بكعب رفيع». كان آباؤنا وسيمين وكانت أمهاتُنا جميلات، لأنهم عاشوا زمن التناسق المجتمعى الذى قتلناه بأيدينا. كانوا وسيمين وكنَّ جميلات، لأن المجتمع كان وسيمًا وجميلًا.