تقديم: أثير محمد علي
يتذكّر المخرج السينمائيّ الإسبانيّ بدرو المودوبار، في المقابلة التي أجرتها معه مجلة سوفيلم (أبريل 2016)، سنوات الشباب، ويكشف عن أساتذته والمؤثّرات الفنّيّة في أفلامه، ويبوح بصفحاتٍ كانت مخفيّةً من سيرته الذاتيّة.
وُلد المودوبار سنة 1949 لأسرة ريفيّة متواضعة في إحدى قرى “سهل المنشا” القشتاليّ. وهاجر مع عائلته في عمر مبكّر إلى مدينة كاثِريس Cáceres، حيث تابع دراسته في مدرسة دينيّة، ما أفقده الإيمانَ بالله على حدّ تعبيره. لم يكن قد تجاوز السابعة عشر عامًا عندما وصل إلى مدريد العاصمة بحثًا عن عملٍ يعتاش منه، وفيها تقلّب بين مهنٍ مختلفة قبل أن يستقرّ لعدّة سنوات مساعدًا إداريًّا في شركة الاتصالات الهاتفيّة، الأمر الذي مكّنه من شراء أوّل آلة تصوير له، وكانت سوبر/8.
عاش المودوبار الشابّ في الحاضرة الإسبانيّة بين فئات الحضيض على الهامش المجتمعيّ، وسينقل بعضًا من ملامح شخصيّاتها إلى الشاشة الكبيرة. فتحت أسطح بيوت العاصمة، وفي حاناتها الليليّة الواهنة، كان القلقُ الاجتماعيّ والسياسيّ يسري بين الجدران، وكان جليًّا مع نهاية عقد الستينيّات توقُ الإسبان إلى التحوّل الديموقراطيّ حتى قبل إعلان موت الجنرال فرانكو في العام 1975.
مع نهاية السبعينيّات، بدأ المودوبار بممارسة كتابة السيناريو, كما كتب قصصًا مصوّرةً ومقالات فنيّة لمجلّات تُصنَّف ضمن “الثقافة البديلة” لما هو مكرَّسٌ ومهيمِن. فعلى امتداد عقد الثمانينيّات، وفي ساعات متقدّمة من ليل مدريد، كان الشبّان والشابات يخرجون إلى الشوارع، ويتماوجون في الحانات التي كانت تبدّل ديكورها وتغيِّر من نور مصابيحها على وقع الموسيقى المهمَّشة رسميًّا، والمضادّة في أنغامها ومحتواها للموسيقى التي كانت تموّل عمليّةَ إنتاجها وتوزيعها الشركاتُ العالميّةُ المسيطرة على سوق الفنّ.
خلال تلك المرحلة ظهر المودوبار ممثلًا بارزًا لـ”لا موبيدا” La Movida Madrileña، أو الحراك المدريديّ، وهو حراكُ شبابٍ متمرّدٍ على “إسبانيا البالية،” على تحزّبات اليمين واليسار، على “ثقافة النخبة،” على الاستلاب، على الجنس المقنّن. وعبّر هذا الحراك عن نفسه على المستوى الثقافيّ في الأساليب الفنية الجديدة المضادة التي بدأت تكتسح فنون الموسيقا والرسم والتصوير الضوئي والغرافيك والسينما. كانت الظهورات الفنيّة “الفضائحية” لأعضاء “لا موبيدا” في الطرق والحفلات وشاشات التلفزيون والسينما أشبهَ بصفعات متلاحقة لمعايير “الحشمة البرجوازيّة” وفنّها “المهذب” و”المتقن الصنع.” وفي موازاة أهمّ حركة اجتماعيّة فوضويّة Anarquismo عرفتها إسبانيا في النصف الأول من القرن العشرين، بدت “لاموبيدا” فوضويّةً جديدةً، إلّا أنّها فوضويّةٌ هجستْ بتحرّر جسد الفرد، وثوّرت القيمَ المادّيّة والمعنويّة في العلاقة بهذا الجسد. والحقّ أنه لا يمكن فهمُ سينما المودوبار إلا انطلاقًا من حراك “لا موبيدا” المدريدي، بل إنّ جميع نساء المودوبار اللواتي تزدحم بهنّ مشاهدُه السينمائية لسن إلا مرايا لتحولات مجتمع يخلّف وراءه سكونيّةَ الأخلاق، وتخشّبَ المفاهيم، وينخرط في تجربة المعاصرة وقلقِ أخلاقِها المتحولة.
رغم إغراءات الشهرة والنجاح والجوائز، لم يفارق المودوبار مدينته مدريد قطّ؛ وكلُّ حكاياه الفيلميّة ـــــ على تنوّعها وتعدّد مرجعياتها ـــــ هي حكايا إسبانيّة خالصة. فمنذ تعلّم فعلَ السينما لم يتوقف عن إبداع الأفلام. هجر التعاطي مع حياة الليل، وهجر الإفراط في كل ما كان يشكل ماضي حياته. واليوم يقول لنا المودوبار إنّ السينما هي ما تبقى من الماضي الذي عاشه.
*نُشرت المقابلة في مجلة سوفيلم (النسخة الإسبانيّة)، العدد 31، برشلونة، 2016، ص45-62. أجرى المقابلة الصحفيّان فرناندو غوثان وألبرو أروبا.
* ترجمة وتقديم: «أثير محمد علي» لـ مجلة «الآداب» اللبنانية.
مقابلة مع المخرج السينمائيّ الإسبانيّ بدرو المودوبار
أثير محمد علي: باحثة وناقدة سوريّة، مقيمة بين اشبيلية ودمشق. حصلتْ على لقب “دكتورة في المسرح” من جامعة آوتونوما في مدريد. من كتبها: منمنمات مسرحيّة: المسرح العربيّ في بلاد الشام ومصر خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى الحرب العالمية الأولى” (بالإسبانيّة)؛ لبيبة هاشم وفتاة الشرق(بالإسبانيّة). درّستْ سنة 2007 في المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق. كُلّفتْ من قبل مديريّة المسارح بإنجاز أحد كتب مهرجان دمشق المسرحي الثالث عشر، يوميّات مسرحيّة في الصحافة العربيّة (1897 – 1933) (بالعربيّة).