الفن المفاهيمي
بقلم : حكم ناطق الكاتب
المفهــوم :
يشير (أمهز ) إلى أن نشاة الفن المفاهيمي ـ على نطاق واسع ـ ترتبط بالمعرض الذي أقيم في متحف ليفركوزن (Leverkusen) في ألمانيا عام 1969،” وأطلق عليه اسم مفهوم conception”(2009:483). ويذكر (أمهز )أن عبارة فن مفهومي صارت:”مدلولاً أو معادلة لمادة مدونة معقدة، أو رسالة غامضة من الفنان،…،…، حيث تصبح الفكرة الهدف الفعلي بدلاً من العمل الفني نفسه، أي أن الفن المفهومي يمثل من هذه الزاوية مرحلة من النشاط مابين الفكرة والنتاج النهائي، تشكل الجزء الأهم في عملية صناعة الفن”(2009:484). ويذكر آل وادي أن الفن المفاهيمي هو:” حال تحويل فكرة ما وجعلها ملموسة “( 2011:335). وقد أحدث الفن المفاهيمي تحولات نوعية في مفهوم الفن الذي يعتمد على المهارة الفنية، ويهدف إلى إنتاج شيء جميل، وفي مفهوم العمل الفني الاستهلاكي، ووسائل التعبير الفني، فضلاً عن دور الفنان. كما سعى رواد المفاهيمية إلى التنكر للتقاليد الفنية، ومحاولة التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية، وإعادة الاعتبار للمضمون، فضلاً عن “دمج الفن بالحياة”(أمهز،2009:483).
فالفن المفهومي كما يراه أتباعه ـ وفق تعبير أمهز ـ هو:” المفهوم فن، وينظر إليه من حيث هو مبدأ موضوعي، وهو لا يدل إلا على استقصاء هذا التصور لكلمة فن خارج أي اعتبار قصصي أو تعبيري، فالشيء ـ الشيء الفني ـ يزول كليا ليأخذ مكانه تحليله: ماهو الفن؟ ، وإذ يعتبر الشيء الحسي بديهيًّا، فلأنه لا يحتفظ سوى بالإدراك المفهومي لهذا الشيء” (أمهز،2009:486).
النشــأة :
نشأ الفن المفاهيمي بفعل عوامل عدة أبرزها: ردة الفعل النفسية على الحربين الكونيتين الأولى والثانية، والتطور العلمي والتكنولوجي، وكذلك التأثر بالحركات الفنية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين مثل السريالية، والتعبيرية التجريدية، ومحاولات مارسيل دوشامب في العقد الثاني من القرن المنصرم على أخص، والحركة الدادية الجديدة، والفنانين الفرنسي ايف كلين، والإيطالي مانزوني اللذين اعتبر نشاطهما بمثابة حلقة الوصل” مابين الدادية في مختلف مراحلها والفن المفهومي”(أمهز،2009:483). وسعى هذا الفن إلى لفت الانتباه تجاه عالم اليوم”وما يشهده من تفكك واسع النطاق”(آل وادي، والحسيني،2011:337). ويشير أمهز إلى أن النماذج الأولى للفن المفهومي (conceptual art) ظهرت حوالي مابين (1965ـ1966) ، وقد جاءت هذه النماذج ” كأعمال فنية لا وظيفة لها، أو رسالة سوى تحديد نفسها”(2009:482)، وتمثل لوحة الفنان كوزت (Kosuth) المسماة تصوير واحدة من تلك النماذج، وهي عبارة عن صورة فوتوغرافية مكبّرة لتفسير كلمة Painting)) كما وردت في القاموس (أمهز،2009). كما يشير أمهز إلى أن التيارات الفنية الجديدة تمثلت ” للمرة الأولى على نطاق واسع في المعرض الذي أقيم سنة 1969 في متحف ليفركوزن (Leverkusen) في ألمانيا عام 1969، وأطلق عليه اسم مفهوم conception”(2009:482). وتلا ذلك تنظيم معارض أخرى في عدد من المدن الأوروبية، والأمريكية ” شارك فيها فنانون من مختلف أنحاء العالم يمثلون تيارا فنيا طليعيا كان قد مهد له مارسيل دوشامب”(2009:483). ومن رواد المراحل المبكرة للفن المفاهيمي الأكثر شهرة : جوزف كوست Joseph Kosuth, ، روبرت موريس Robert Morris، جوزيف بويس Joseph Beuys، ورامسدن ميل Mel Ramsden (Schellekens,2007).
الأساليب أوالاتجاهات المفاهيمية : يذكر آل وادي أن الفن المفاهيمي يتضمن العديد من الممارسات والاتجاهات الفنية مثل” فن الجسد، فن الأرض، الفن لغة” (2011:338)، وجميعها تذهب إلى قطع الصلة مع الموروث، والتخلص من اشكال الفن التقليدية، وطرق استهلاكه، مع”إبراز الواقع كما هو كقيمة جمالية”(آل وادي، والحسيني،2011:338). وقد سعت هذه الاتجاهات إلى الابتعاد عن العمل الفني التقليدي، واستبدل الفنان اللوحة والتمثال “بالأفكار والمفاهيم والمعلومات التي تمس الفن”(آل وادي، وعبادي،2011:181). وشملت أدوات هذا الفن” المقترحات المكتوبة، والصور الفوتوغرافية، والوثائق، والخرائط، والرسوم البيانية، والفيلم، والفيديو، وأجسام الفنانين أنفسهم، واستخراج اللغة نفسها”(آل وادي، وعبادي، 2011:181). وأصبح الفنان”يتمتع بفضاء واسع من الحرية جراء التعبير بأشكال ومواد يبتكرها لنفسه تمثل أشياء هي من نتاج الحياة اليومية المعاصرة”(آل وادي، والحسيني،2011:335). كما بدأ العمل الفني” يرتهن تماماً لتقنيات الحياة الحديثة”(آل وادي، والحسيني،2011:335).
1ـ فن ولغة :
يشير أمهز إلى أن العمل الفني في نظر أحد ابرز ممثلي هذا الاتجاه جوزف كوزت Kosuth ، وفي نظر جماعة فن ولغة أيضاً يمثل” نقطة التقاء بين عدة مناهج اتصالية: الصورة واللغة تلتقيان في الكتابة، الوسيلة التي تجعل الكلمة مرئية،…،…، واعتبروا أن التقويم الجمالي ليس غريباً عن وظيفة الشيء فحسب، بل يبعده عن مبررات تمثيله، فهم يعتقدون أن محور الفن قد انتقل منذ مارسيل دوشامب من شكل اللغة إلى اللغة نفسها”(2009:486). و يذكر أمهز أن جماعة فن ولغة أسست مجلة في إنجلترا سنة 1969 تحمل ذات المسمى، غير أن الجمع بين كلمتي( فن)، و(لغة) لا يشير إلى ” ممارسة الكلام باعتباره فنًّا، بل إلى تطبيق اللغة على تحليل الفن”(2009:486).
2ـ النقـاش فـن :
بهدف توضيح أهدافهم استخدم الفنانين المنضوين تحت عباءة الفن المفاهيمي”الصور الفوتوغرافية، والميكروفيلم، والنصوص المدونة”(أمهز،2009:488)، واستخدموا أيضاً” مجموعة كبيرة من الكتيبات، والأشرطة المسجلة، ووثائق أخرى تتعامل كلها مع طريقة النقاش حول الفن”(أمهز،2009:488). كما عمد بعضهم إلى ” إدخال الأبحاث اللغوية ، والفلسفية، والاجتماعية في نصوصهم المدونة شعوراً منهم بأن دور الفنان قد بات هامشيًّا، وأنه لابد من تخطي هذا الدور باللجوء إلى لغة جديدة متخصصة”(أمهز،2009:488).
3ـ فـن الأرض :
انعكس الفن المفاهيمي على بعض الأنشطة التي يحتل فيها التوثيق دوراً كبيراً، وتوظف فيه الصور الفوتوغرافية، وشرائط الفيديو، وغيرها من الوسائل التي تساهم في تحويل ” مفهوم الفن بصفته شيئا مجسداً ماديّا إلى مفهوم يجعل الفن وسيلة استعلام فيزول العمل الفني، ولا يبقى منه سوى الذكرى، ويحل الاتصال محل الملكية”(أمهز،2009:488). وقد امتد تأثير هذا الاتجاه على ما يعرف بفن الأرض(Land Art) حيث بات فن النحت يمارس مباشرة في الطبيعة نفسها، كما اقتصر النشاط الفني لبعض الفنانين على التجول بين أحضان الطبيعة، وتأملها، والتقاط الصور الفوتوغرافية. وهكذا تخطى العمل الفني قاعة العرض، و” لم يعد يرتبط، أو يتمثل بأي أثر تزييني، أو نظام معماري، بات تساؤلاً ذا أبعاد فكرية، ونفسانية جديدة على علاقة بالتجربة المباشرة”(أمهز،2009:489). وأصبح فن الأرض يعبر عن” التداخل مع الطبيعة بعد أن تجدد مفهوم الفنان لها”(أمهز،2009:488). غير أن الفنان انتقل بعد ذلك لمواجهة الطبيعة للتعبير من خلال العمل عن ” سلوك ضروري لمواجهة هذا المدى الأولي، والمتوحش الذي أبعدتنا عنه حضارتنا روحيا، وجسديا”(أمهز،2009:490).
4ـ علم آثار الحاضر:
يذكر أمهز أن نطاق التوثيق الفوتوغرافي اتسع ليشمل “تسجيل مظاهر مختلفة من حياة المجتمعات المعاصرة،…،…، وهو إذ يلجأ إلى علم آثار الحاضر، وإلى دراسة الأجناس البشرية للحياة اليومية، وإلى جمع العاديات الحديثة ،المبتذل منها والتافه، والزائل، والفريد،إنما ليٌعبر عن مأساة الإنسان المعاصر، ويطرح تساؤلات مُقلقة حول مصيره”(2009:491). ويضيف (أمهز )أن الفنان المفاهيمي ربما كان يهدف إلى إعادة ” بناء داخل محرر من أي قيود انطلاقاً من التحليل المنهجي للعالم الخارجي، بحيث يتحول العمل الفني إلى مرآة يمكن للفنان المبعد عن الواقع أن يرى نفسه فيها”(2009:492).
5ـ فن الجسـد: يؤكد فن الجسد(Body Art) ” فكرة الحياة التي تتحول إلى عمل فني”(آل وادي، والحسيني،2011:344)، وترافق ظهور هذا الفن “مع ظهور مجموعة من التوجهات التشكيلية التي قدمت الفن كفكرة،…،…، كمحاولة للاحتفال إبداعيا بالجسد وجعله مكونا تكميليا للعمل الفني”(آل وادي، والحسيني،2011:342). حيث شكل الجسد مادة العمل الفني الأساسية، ومحور”اهتمامات الفنان المفهومي بعد أن تخلى عن كل المقاييس الجمالية، أوالأخلاقية، واقترب من الحدوثية”(أمهز،2009:493).
6ـ الفن الحركي:
يذكر آل وادي أن الفن الحركي ارتبط بمجال” النحت الحركي الذي يحتوي على أجزاء متحركة مطعمة بمحركات تشتغل بالهواء، أو بطريقة يدوية، ويعود أصل الفن الحركي إلى عجلة للدراجة لمارسيل دوشامب،…،…، بالإضافة إلى ألكسندر كالدر”(آل وادي، والحسيني،2011:372). اتجه الفن الحركي ـ كما يذكر آل وادي ـ نحو” نمطين من التعبير تربط بينهما منهجية واحدة: هما البنية المبرمجة، والصورة المتبدلة حركيا”(آل وادي، والحسيني،2011:373). و يشير آل وادي إلى أن ” التحول الذي شهده الفن في إدخال خامات ومواد مهمشة متمثلة،…،…، كان لها الشغل الأكبر في تمثل الحركة بآلية اشتغال صناعية في فن مابعد الحداثة”(آل وادي، والحسيني،2011:376). كما يشير آل وادي إلى أن ” تعدد التقنيات المستخدمة، واختلاف الآليات المتبعة في نتاجات الفن الحركي جاء نتيجة الرغبة في مواكبة التطور العام، وما رافقه من تحول في مفاهيم الإنسان، وعلاقته بالعالم، ومفهومه للكون، والسرعة، والزمن”(آل وادي، والحسيني،2011:378).
7ـ النحت التجميعي:
يشير آل وادي إلى بدء التحول” الذي أحدثه استخدام المادة في النحت المعاصر، مع استخدام الأشكال الجاهزة الذي جاء مع أعمال مارسيل دوشامب،…،…، وفيه تحرر النحات من الخامات التقليدية، حيث استخدم طرقا، وأساليب جديدة في استخدام مخلفات الصناعة لصياغة قوالب فنية تميزت بالإبداع، والتجديد”(آل وادي، والحسيني،2011:379). كما يشير آل وادي إلى ” تحول التعبير البيئي في عصر التجميع من مهارة حرفية للفنان في استخدام المواد التقليدية،…،…، إلى استخدام أي شيء يمكن أن يحقق ذاتية، وخلق جديد، ويعطي تعبيراً عن صيغة مبتكرة في استخدام المستهلك، والمستعمل من النفايات، والمواد اليومية”(آل وادي، والحسيني،2011:380)