«جذور الاتحاد»: العين تعزف على بحريْن.. والبصر يعبر التاريخ على جناح الصورة
حصاد الضوء… |
شـهيرة أحـمد
بعيدا جدا عن التنظيرات السياسية والأفكار الكبرى التي ظلت لصيقة بفكرة الوحدة العربية.. بعيداً عن الانقسامات والاتجاهات والاختلافات على الطرائق والسبل والغايات التي كانت السبب في إخفاق “وحدات” صنعت “من فوق” فلم تصمد أمام أول اختبارات الحياة، ولفظت أنفاسها على سرير الخلافات، أو تلك التي ظلت حلماً مع وقف التنفيذ، وقريباً جداً من البسيط واليومي والقادر على قراءة المرحلة واستحقاقاتها ببصيرة لا تتعالى على ما يريده الناس، صيغت فكرة “اتحاد الإمارات”.
على مهل بُنيتْ، بهدوء وبحنكة سياسية وحكمة فطرية، برغبة في تحقيق أحلام الناس نسجت خيوط الحكاية التي ترويها هذه المرة ذاكرة الصورة… ففي الصورة تكتمل القصة على أصولها، وتنضج، عندما تصبح تاريخاً، مدججة برغبة البوح، لتقول التفاصيل كلها، وتستحضر الوجوه والأماكن، بأقل قدر من الكلمات.
بالصورة تبدأ رحلتك مع معرض “جذور الاتحاد”، الذي نظمته هيئة أبوظبي للثقافة والتراث احتفاءً بالعيد الوطني الأربعين لدولة الإمارات العربية المتحدة، ضمن فعاليات معرض “الاتحاد”، في جناح الإمارات ـ منارة السعديات في جزيرة السعديات، وبها تنتهي، وبين المفتتح والختام تنمو مشاهد كثيرة على حواف البصر، وتتفتح في حديقة الفكرة/ الحلم ورود شتى… وما عليك إلا أن تستقل قطار الصورة ليأخذك في رحلة إلى الماضي… إلى الجذور.
روح الفنبعد أن تقرأ لوحة تعرف بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وبالمصور رونالد كودري تأخذك 67 صورة من إبداع المصور رونالد كودري إلى سنوات خلت، وبالتحديد إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلى وجوه الناس الذين عاشوا في هذه المنطقة والذين رآى فيهم كودري “أهدافاً رائعة للتصوير جسدتها من خلال عدسة الكاميرا”، والذين وصفهم في كتابه “وجوه من الإمارات” بأنهم “كانوا أناساً غير عاديين” فقرر أن يخلد تلك العيون والملامح آملاً “أن تنجح بعض صور هذه المجموعة، في جعل أبناء الجيل الجديد يقدرون الصفات الحقيقية وعظمة أسلافهم الذين تطل التعابير المتفهمة من وجوههم والابتسامة من أعينهم، على الرغم من شظف معيشتهم”.
إلى هناك، إلى فرسان الرمال الذين عاشوا حياة قاسية صاغتها طبيعة شحيحة، حيث كل شيء يحتاج إلى جهد وكفاح: الحصول على الطعام والماء والكساء وكل ما يعتبر من ضروريات الحياة الإنسانية، ترحل بك الصور في مشاهد حياتية يومية لتنطوي على مفارقتين: الأولى أن الوجوه التي عانت شظف العيش وقساوته غنية بفرحها الروحي والابتسامة التي لا تغادر شفاهها والألق الذي يلمع في عيونها، والثانية أن الصور التي تجسد هذا العسر في المشهد الواقعي تتوفر على غنى جمالي يعكس قدرة تصويرية عالية نظراً لواقع التصوير الفوتوغرافي في ذلك الوقت، ما يعني أن كودري الذي كان موهوباً في التصوير بلا شك يؤكد تلك المقولة التي يتداولها المبدعون المصورون عادة وهي أن العين هي التي تلتقط الصورة لا العدسة. وما دامت العين هي الفاعل هنا فلا شك أن عين كودري كانت عين باصرة وبصيرة ترى ما خلف المشهد وتبرز مطموراته الجمالية.
في الفكرة تؤرخ الصور لعدة موضوعات تشكل في مظهرها العام سمات الحياة أو مظاهرها المتنوعة، بحيث تشكل بالفعل سجلا تاريخيا مهما ووثيقة لا تقبل الشك كما هي الحال مع الكلمات التي يمكن تأويلها أو تحريفها أو تحميلها مضامين لا تخصّها.
حديث الأزرق
قبل ظهور النفط كانت حياة الإماراتيين تعتمد على البحر، إليه لجأ الإماراتي ليستخرج من أعماقه لقمة عيشه. هناك، في أعماق الظلام وفي بحر الخوف ومغاصات الأهوال والأخطار كان يبحث عن اللؤلؤ ليبيعه ويعتاش منه. ولقد وثقت الصور حياة الغواصين، لآلئهم التي لا يفوقها في البريق سوى بريق عيونهم المصرّة على تحدي الأخطار وانتزاع لقمة العيش من فم بحرٍ يمكن أن يتحول في لحظة إلى وحش كاسر يبتلعهم ومعهم أحلامهم وتفاصيل حياتهم الشخصية كلها. اللآلئ التي تزهو على زنود الملكات ومعاصم نساء المجتمع المخملي في أوروبا كانت غالباً تأتي على جثة غواص ذهب إلى البحر عارياً إلا من إيمانه ورغبته في اجتراح حياة كريمة.ربما لم تقل صور كودري هذا لكن الفيلم الوثائقي الذي يختصر رحلة الإمارات طوال 40 عاماً يقول هذا بوضوح، حيث يشير إلى المصيبة التي حلّت ببلدان الخليج التي كانت تعتمد في حياتها على البحر: صيداً وغوصاً، فتلك المصيبة لم تكن سوى ظهور اللؤلؤ الصناعي الذي تسبب في كساد حتى هذا المصدر من مصادر الرزق القليلة… بيد أن الصور تبرز نظرة التحدي في عيون الغواص العازم على الظفر بالثروة النائمة في أعماق الأزرق، وسفن الغوص التي تشق وجه البحر مستعينة بشراع لا يسنده إلا لطف الله وعنايته.. شراع أبيض لا يختلف كثيراً عن بياض قلوبهم، يشق الهواء وربما تلاعبت به الريح مرّة، فلم يصمد أمامها في بحر لجيٍّ.
لم تقف عدسة (عين) كودري عند الغوص بل لاحقت الصيادين في علاقتهم مع البحر، مقتنصة صوراً جميلة ومشاهد مدهشة لصيادين ينشرون شباكهم أو يبحرون في سفن الصيد؛ فالصيد هو الأخ التوأم للغوص، به كانت تستقيم الحياة الاقتصادية. ومثلما بحث الإمارتيون في قلب البحر عن اللآلئ بحثوا أيضاً عن رزقه الوفير الذي بدا في شباكهم مثل ذهبٍ أبيض يبرق على الشاطئ تحت أشعة الشمس.
وثمة بحر آخر يعرفه الإماراتيون جيداً، إنه بحر الرمال التي تتموج في صحراء ممتدة تكاد تلمس عزلتها تسيل على الكثبان. لم تكن عزلة ذهبية كما يحلو للشعراء أن يقولوا، بل كانت عزلة بأنياب حادة حاول الإماراتي أن يخفف من وطأتها بقليل من اللهو على الرمال، بسباقات الهجن، وبإيقاعات طبول تكاد تسمع صداها يأتي من خلف الصورة التي أبَّدت لحظة جمالية عاشها موسيقيون لوَّحت وجوههم شمس حارقة فيما هم يقرعون طبولهم ليوقظوا حظاً نائماً، أو “يوّيله” يدوّرون بنادقهم على هوى نفوسٍ توّاقة للفرح.
مشاهد تترى، ترسم أمامك حصاد الضوء بصدق أخاذ: نساء ذاهبات في الرمل بكل أقدامهن وإقدامهن (بكسر الألف) للحصول على الماء، رجل مدفون حتى نصفه يحفر بئراً قديمة ليحصل على الذهب الأبيض، أعني الماء الذي كان عزيزاً وغالياً كما هي الحياة نفسها. كاتب الرسائل الذي يذكرك بجمال اللوحات الفنية لرسامي القرن الثامن عشر. بائع التمور في ابتسامته الخالصة من كل سوء. صيادون يفتحون شِباكهم ومعها يفتحون صدورهم لأمنيات صيد وفير، لهذا ولغيره تأخذك الصور لتطوف بك عبر تلافيف الذاكرة، تضيء المعتم، والمنسي، وما علاه الغبار فتولد بين يديك حكاية وطن قرر أن يكون، فكان له ما أراد.
لا تبوح الصور بذاكرة الإنسان فقط بل تمنح للمكان حضوره البهيّ في الوثيقة.. تصوغ عبر صور الحصون والقلاع ما كانت عليه الحياة من بساطة في كل شيء.
بالأبيض والأسود تتشخص صور أبوظبي في 1959، دبي في 1951، جسر المقطع ومخاضته المائية التي كانت تخوض فيها السيارات وفي حالات المدّ ربما تصل المياه إلى النصف الأعلى من جسد الإنسان، ثم صورة أخرى للمقطع في حالته الجديدة وقد ارتفع فوقه ممر تسهيلاً لحياة الناس، قلعة الحاكم في رأس الخيمة، مهبط الطائرات في الشارقة 1949، خور دبي، أم القيوين 1951، قلعة الحاكم في عجمان، وغير ذلك كثير.
ربما لم تكن مصادفة أن تقابل صورة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” بنظرة الأمل في عينيه والإصرار البادي على شفتيه، صور أطفال يتعلمون القراءة والكتابة والقرآن الكريم في “عشيش” من سعف النخيل، لعله الاقتران الذي أراده المغفور له دائماً: بناء الإنسان وتعليمه مع الحفاظ على أصالته وثقافته العربية الإسلامية.
روح التوثيق
“عيناه ترقبان العلم. ترى ظل الراية يتألق على وجهه. لم تكن تعابير الوجه تشي بلحظة بروتوكولية. كانت الملامح طبيعية وكأنها تقول: ها قد تحقق . هذا هو حلمي. هذه هي الراية ترفع”.
بهذه الكلمات التي قالها الحاج عبد الله المحيربي، الذي كان وقتها السكرتير الشخصي للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله”، متذكراً لحظة رفع علم دولة الإمارات العربية المتحدة، واصفاً إيقاع الحدث على الشيخ زايد، تعبر الى القسم الثاني من المعرض. والعبور في كل دلالاته يتضمن الانتقال من حال الى حال أو من فكرة الى أخرى وهو ما يحدث بالفعل هنا. ها إنك تعبر إلى فكرة الاتحاد بالكلمة والصورة. وها هي اللوحة الطباعية التي تتصدر القاعة تخبرك عن “مشروع التاريخ” وهو مبادرة اطلقتها صحيفة “ذي ناشنال” بالتعاون مع المركز الوطني للوثائق والبحوث لإحياء ذكرى أحداث كبرى رافقت الاتحاد. هنا تأخذك الصور الى السياسة والسنوات ويوميات الاتحاد وتفاصيله وتعليقات الرجال الذين عاصروا الحدث. فضلاً عن متابعة أحداث الثاني من ديسمبر 1971 ساعة بساعة.
“كانت الديار التي قدر لها ان تشكل في الثاني من ديسمبر 1971 اتحاد الإمارات العربية تتبع بريطانيا بموجب مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات قديمة العهد، وطوال ما يزيد على القرن. حينها كانت بريطانيا توفر لهذه الإمارات المعروفة بمجموعها بالإمارات المتصالحة الحماية العسكرية وتدير شؤونها الخارجية، وتملي عليها مصالحها الاقتصادية وكثيرا ما كانت تتدخل في سياستها الداخلية. كانت الطرقات دروبا صحراوية. كانت الإمارات قليلة السكان والعديد من القرى لم تكن سوى بيوت مبنية من الحجر المرجاني او سعف النخيل. ويقول إحصاء مبدئي أجري في أواسط الستينات ان عدد السكان يبلغ 25 ألف نسمة”.
بهذه الروح التوثيقية ينسج هذا المشروع حكاية الرجال الذين صنعوا الاتحاد أو شاركوا في أحداثه أو كانوا شهود عيان على ميلاده. يحضر في الصورة شيوخ الإمارات: الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. الشيخ خالد بن محمد القاسمي. الشيخ صقر بن محمد القاسمي. الشيخ راشد بن احمد المعلا. الشيخ راشد بن حميد النعيمي. الشيخ محمد بن حمد الشرقي، وكلهم رحلوا عن عالمنا لكنهم ما يزالون حاضرين في ذاكرة الناس والوطن.
في كتاب التاريخ الذي تنداح أحداثه الكبرى يمكنك أن تقرأ ما قاله دنيس هيلي وزير الخارجية البريطاني، ودنيس والترز المبعوث البريطاني الخاص في الخليج. وما ذكرته وثيقة بريطانية دبلوماسية في يوليو 1968: “ان حكومة جلالة الملكة هي التي تحدد سرعة التقدم في دول الخليج الاخرى، اما في أبوظبي فإنه الشيخ زايد”، ثم في ومضات مكثفة كما يمر شريط سينمائي سريع تقرأ أهم الأحداث:
6 أغسطس 1968: زايد حاكماً لأبوظبي خلفاً لأخيه شخبوط/ 22 يناير 1967 اجتماع زايد وراشد/ أحمد خليفة السويدي في واشنطن طلباً لدعمها قيام الاتحاد ثم زار نيويورك لبحث عضوية الدولة في الأمم المتحدة، ثم إشارة الى أن بريطانيا شعرت بالغضب من هذا “النشاط الحر” لأن بريطانيا بموجب الالتزامات المنصوص عليها في المعاهدة الموقعة هي من تتولى السياسة الخارجية/ 10 يوليو حكام الإمارات السبع يجتمعون في مجلس الشيخ راشد في جميرا/ 12 يوليو يعود الحكام للقاء في اجتماع آخر/ 18 يوليو يصدر بيان الاتحاد: “بالرعاية الإلهية واستجابة لرغبة شعبنا العربي؛ فقد قررنا نحن حكام الإمارات العربية المتحدة إقامة دولة اتحادية تسمى دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي هذا اليوم المبارك قمنا بتوقيع الدستور المؤقت لدولة الإمارات العربية المتحدة” / 6 أغسطس تأجيل الاحتفالات بعيد الجلوس ولما سئل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” عن السبب قال: هناك ما هو أهم. هناك عمل مصيري يتعلق بوجودنا ومستقبلنا السياسي وهو قيام الاتحاد الذي يحتم علينا جميعا ان نعطيه من الجهد والعمل المتواصل ما يحقق إرادة الشعب”/ 5 سبتمبر أحمد خليفة السويدي يغادر في مهمة دبلوماسية إلى طهران وبغداد والقاهرة ولندن وواشنطن والأمم المتحدة، كما زار حامد بن حمد من أبوظبي وأحمد سليم من دبي ومندوب من الشارقة كلاً من عمان والبحرين والكويت وسوريا والأردن ولبنان، وحملت البعثتان رسالة موقعة من زايد عن الإمارات الست التي وقعت على الاتحاد/ 1 ديسمبر غطت صحيفة الاتحاد الاستعدادات النهائية ليوم الاستقلال.
بعد ذلك يوثق المعرض لوقائع يوم 2 ديسمبر 1971م ساعة بساعة، من لحظة قيام الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله بمغادرة قصر المنهل قبل هبوط الليل يوم 1 ديسمبر ولغاية قيام الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم بقراءة بيان إعلان الدولة عن والده: “تم توقيع اتفاقات لإنهاء العلاقات التعاقدية الخاصة بين كل الإمارات. في هذا الاجتماع التاريخي نشهد إعلان تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة. الهدف من هذه الدولة الجديدة هو توفير حياة افضل واستقرار للأمة.
وحماية حقوق وواجبات مواطنيها، وتحقيق التعاون الوثيق بين الإمارات من اجل الخير المشترك، وتحقيق التنمية والتقدم في جميع المجالات، ونتطلع الى الانضمام لجامعة الدول العربية والأمم المتحدة تماشياً مع القضية الإسلامية، ودعم الصداقة والتعاون مع جميع الدول الصديقة والتي تقوم على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية”.
ثم يؤرخ الأحداث التي أعقبت إعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة التي اصبحت في 6 ديسمبر عضواً في الجامعة العربية، وقبول عضويتها في الأمم المتحدة بناء على القرار رقم (340) في التاسع من ديسمبر ليتم في العاشر من ديسمبر رفع العلم خارج مبنى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك للمرة الأولى، وتشكيل أول حكومة للإمارات. على الجدار المقابل، تصافحك صورة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” يطلع على العلم الجديد مع سيف بن غباش، وطفل إماراتي يلتحف بالعلم ويقفز به في الهواء، في إشارة موحية إلى ترسخ فكرة الاتحاد وانتقالها عبر الأجيال.
روح الضوء والظل
الصورة رديف الذاكرة، وفي الصور التي اختارتها الهيئة من المشاركات المتميزة في مسابقة الإمارات للتصوير الفوتوغرافي 2006 التي تنظمها برعاية الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي FLAP، قالت إن “الحياة الإماراتية هي حياة قاطنة في تفاصيل كل ما نراه وما نتعامل معه على انه قطعة من زمن خاص لمكان خاص، وهذا المعرض “حياتنا الإماراتية” للمصورين الإماراتيين ليس سوى عتبة، من يقف عليها، يدخل الى بيت أصيل بأهله”.
دخلنا إلى البيت فوجدناه مسكوناً بالجماليات، وتحتضن جدرانه إبداعات مصوري الإمارات المعاصرين، الذين نقلوا عبر فنياتهم وجماليات صورهم وأفكارهم الخلاقة كل مفردات الحياة الإماراتية تقريباً، بحيث بدت الأعمال بانوراما ضوئية تحتفل بالحياة. كل شيء عن الإمارات تراثاً وتاريخاً ومعماراً وفنوناً وثقافة وبشراً ومكاناً كان مادة الصور وزادها الإبداعي. توهجت روح الاتحاد بصرياً وتجسدت الإمارات في كل أوقاتها؛ ليلها المضيء ونهارها المتكئ على زند البحر، خيوط الضوء التي تتسلل على استحياء الى عزلة الصبية أو تلف القصر العتيق أو تنسرب من نافذة تحدق في الصباح.
في كل شخوصها: الأطفال الراكضين إلى أحلامهم، و”الشيّاب” الطافحين ببساطة تعكسها ضحكة تأخذ بتلابيب القلب، والنساء الواقفات على صباحاتهنَّ المضمخة بالشوق.
في كل جمالياتها المعمارية: البيوت والقلاع والحصون، و”الفنر” يلقي نوره على بيت تراثي كي لا يذهب الى عتمة النسيان، والمنازل الأولى التي ما تزال لها في القلوب منازل.
روح المشهد
رغم أنها أسّ المعرض وعموده الفقري ولسانه، إلا أن الصورة ليست وحدها في هذا المعرض. فإلى جانبها ومعها توجد معروضات أخرى تؤثث المشهد منها: سيارة لاندروفر كانت تستخدم لدى كشافة عمان المتصالحة وقوة دفاع أبوظبي من 1966 وحتى 1971 تقف في منتصف القاعة الكبرى للمعرض، وسيارة أخرى تظهر عليها علامات القدم وهي سيارة مرسيدس من طراز 1970 كان الشيخ زايد “رحمه الله” يتجول بها في ارجاء أبوظبي والعين غالبا بدون حراسة. وهناك مجموعة من الطوابع البريدية التي توثق لمسيرة الاتحاد وتحمل مفردات من تراث الإمارات وعمائرها التراثية ومناسباتها المختلفة. فالطوابع ذاكرة على ذاكرة ولكل طابع قصة يرويها. والطوابع وثائق مصغرة ومن خلالها يمكن قراءة الخفي والثاوي واستنباط احداث التاريخ، وهي منتقاة من مجموعة خالد علي العميرة. فضلاً عن مظاهر التراث الإماراتي المنتشرة في كل مكان، والأغاني الوطنية التي تتغنى بالإمارات وسيرتها وتاريخها واتحادها.
وفي الوسط تماماً، تنتصب الخيمة البدوية التقليدية، ومنها يأتي صوت الفنان المبدع حبيب غلوم. تقترب قليلاً لتقع عينك على مقاعد مصممة على هيئة إطارات السيارات، وعليها يجلس مشاهدون يتابعون فيلماً تسجيلياً قصيراً يسمى “غمضة عين”. يحكي فيه غلوم لطفله، بالإنجليزية، وفي ست دقائق فقط قصة تأسيس الإمارات، ثم يودع لديه اللآلئ التي عهد إليه بها والده لتستمر المسيرة. بعد العرض خطر على بالي بيت الإمام الشافعي الشهير:
ما بين غمضة عين وانفتاحاتها
يغير الله من حال إلى حال
لا أدري إن كان الذين سموا الفيلم بهذا الاسم على دراية ببيت الشافعي، لكن الفيلم يجسد بالفعل كيف كانت الإمارات في حال ثم انتقلت الى حال آخر بسرعة قياسية يمكن أن يقال إنها أشبه بـ “غمضة عين” التي في القصيدة. والحقيقة أن الفيلم مشغول بفنية عالية ومشهدية تعتمد اللقطة الواسعة التي تبرز جماليات الصحراء، أما على مستوى المضمون فقد كان الحوار مكثفاً وغنياً بحيث قام بالمهمة المنوطة به، وكل من يشاهده يلم بالفكرة الجوهرية التي قامت عليها دولة الإمارات والمراحل التي مرت بها. كما أن الأداء كان مقنعاً وطبيعياً لا كلفة فيه سواء من حبيب غلوم أو من الطفل المشارك في الفيلم. بعد العرض عرفت أن الفيلم أنتجه المجلس الوطني للإعلام ليعرض في جناح الإمارات في شنغهاي بالصين، وقد حضره قرابة 2 مليون مشاهد وفاز بميدالية ذهبية من مهرجان نيويورك السينمائي 2011. أما المنتج التنفيذي فهو بيتر فاين. وأما المنتج فهو غريغ هوبدين وأما المخرج فهو روبرت بوتشر. وسوف نلتقي مع هذه المجموعة نفسها في فيلم آخر بعنوان “رحلة الى الإمارات” حاز هو الآخر ميداليتين ذهبيتين في نفس المهرجان وعرض في جناح الإمارات في شنغهاي. وهو يجسد النهضة الحضارية والعمرانية التي تشهدها الدولة. والحكاية باختصار أن طفلاً إماراتياً وطفلة صينية يقومان من خلال قوى سحرية حصلا عليها من لؤلؤة خاصة برحلة عبر الإمارات على طريقة أبطال الرسوم المتحركة، وفي طيرانهما يستعرض الفيلم بشكل تلقائي كل الإنجازات التي حققتها الإمارات ونهضتها العمرانية والفنية والثقافية.
وللشعر حصته أيضاً، فعلى حائط أبيض حفرت كلمات قصيدة للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” يقول فيها:
الله عطانا خير وانعام
والحمد له واجب علينا
يا اللي عطانا إيمان والهام
وبفضله الضافي علينا
واليوم صارت جنة أحلام
تزهر بفلّ وياسمينا
قام الوطن بتخطيط وانظام
زان واتّزخرف وبه بهينا
دولة تطور عز واسلام
وبين الأمم دولة بنينا
والشعب متهني بالانعام
وارتاح بهاذي السنينا
هاذا جهود أعوام واعوام
ونسعى لمجد له منينا
شامخ وفيه اتْرفّ الاعلام
ونسعى لصالح المسلمينا
ننبذ كل واشي وذمام
ونترك كلام الواشينا
الله عطانا خير وانعام
والحمد له واجب علينا
حين تنتهي من قراءة القصيدة، خاصة بعد جولتك في المعرض، ومرورك بكل هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها الإمارات، تدرك عظم الجهود التي صنعت هذا الإنجاز. تخرج منتشياً يحدوك الأمل بأن تتكرر التجربة في مكانات عربية أخرى. وفيما تقودك قدماك إلى الخارج تستوقفك صورة الصقر بنظرته الثاقبة، تلك النظرة القوية التي تذكِّر بطائر يفرد جناحيه ويحلق مخترقاً أجواز الفضاء كما لو أنه يدلك على الحكمة العميقة التي تختبئ وراء كل دعوة إلى الوحدة… وما أوضح الدلالة.توفي رونالد كودري في مايو 2000، وعادت مجموعته عن الخليج العربي إلى الإمارات لتصبح بين يدي الهيئة، جنبا إلى جنب مع مجموعات فوتوغرافية أخرى لديها، يعمل على حفظها وإدارتها ابنه جستن، الذي يعمل مشرفاً على المقتنيات الفوتوغرافية للهيئة.
عن الهيئة وكودري
حصلت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث على المجموعة الفوتوغرافية المهمة لرونالد كودري عن الخليج العربي. وتشكل مجموعة رونالد كودري الفوتوغرافية المجموعة الأكثر تكاملاً وشمولية من الصور التي تؤرخ لـ “الإمارات المتصالحة” قبل أن تصبح دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1971، لم يكن النفط قد اكتشِف بعد وكان ثمة القليل من السياح الذين لديهم آلات تصوير، ما يجعل من هذه المجموعة بالفعل توثيقا بصريا نادرا وفريدا بكل معنى الكلمة لثقافة وأسلوب حياة متكامل لم نعد نراه الآن.
ولد رونالد كودري في الهيمالايا الهندية خلال يونيو 1924، وكان يعمل في القوات الجوية الملكية خلال الحرب العالمية الثانية. في عام 1946، تم إيفاده إلى القاهرة التي سافر منها إلى الكثير من مناطق العالم العربي. وانضم فيما بعد لمجموعة نفطية وانتقل للعمل في ما كان يُعرف بـ “الإمارات المتصالحة” التي هي الآن دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عاش وعمل من 1948 إلى 1955، لكنه كان كثيرا ما يتردد على هذا البلد في فترات لاحقة.
بينما كان يعمل في «الإمارات المتصالحة»، ظل كودري يتابع هوايته في التصوير الفوتوغرافي والتقط صورا واقعية لكل نواحي الحياة اليومية في ذلك الحين، فضلا عن تصويره جميع حكام الإمارات السبع في تلك الحقبة. وقد شكلت مجموعته أساسا لثمانية كتب وحظيت صوره بإعجاب واسع النطاق وتم عرضها في العديد من المتاحف بالإمارات.