نبدأ الرحلة من مصر حيث يتلاقى تراث الأديان السماوية الثلاثة وتتواجد أثار أقدم الحضارات في التاريخ. لكننا لن نتحدث هنا عن أهرامات الجيزة أو معابد الأقصر ولا عن القاهرة القديمة واثارها الخالدة. انما سنأخذكم بعيدا عن المدينة والحضر الى الصحراء الغربية المصرية. نرجع بتاريخ الأرض 37 مليون سنة, حين أمتدت مياه بحر التيثس Tethys Seaway- الذي كان يفصل بين القارات في صورتها الأولى- الى موقع الصحراء الغربية المصرية. هناك مات ورقد في أعماق البحر حيوان ضخم يصل طوله الى 50 قدم يعرف بأسم باسيلوسورس Basilosaurus وهو أحد أهم الأصول في شجرة تطور الحيتان الحديثة.
وادي الحيتان هو الموقع الطبيعي الوحيد بالقائمة المصرية المسجلة بالتراث العالمي لليونسكو. للموقع أهمية عالمية بالغة بدرجة أهمية حوت الباسيلوسورس والذي يعد حجر زاوية في عملية تطور الحيتان من كائنات ثدية تتنفس الهواء انتقلت مع الأرتفاع في درجة حرارة الأرض للعيش في البحر, ويعتبر الباسيلوسورس أول فصيلة من الحيتان التي بدأت تنتقل للعيش في البحر لكونه أول حوت يوصف بأطراف خلفية.
عوامل التعرية الطبيعية ساعدت على مدار الاف السنين على اظهار موقع وادي الحيتان حتى جائت حملة المسح الجغرافي لمصر خلال الفترة 1829- 1907 التي ضمت المكتشف الأول للموقعL. Badnell . بينما قامت بعثة البروفيسور الأمريكي Philip D. Gingerich بأهم الاكتشفات بالموقع في ثمانينات القرن الماضي مكتشفة رفات حفريات كلا من الباسيلوسورس و الدوردون Dorudon في الموقع الذي يتميز عن غيره على مستوى العالم باعداد الحفريات وتركزها وجودة حالتها وجاهزيتها للدراسة.
بدأت فكرة التحرك الدولي من أجل الحفاظ على التراث العالمي ابان الحرب العالمية الأولى التي خلفت دمارا كبيرا على مستوى العالم تزايد اكثر في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي خلفت خرابا غطى القارة الاوروبية. بينما كان حدث بناء السد العالي في مصر – وما تبعه من مخاطر اغراق معبد أبو سمبل وجزيرة فيلة – هو الدافع الذي استرعى انتباه العالم, وكانت على اثره اول بعثة انقاذ قامت بها اليونسكو عام 1959 كلفت 80 مليون دولار أمريكي لنقل الاثار المهددة بعيدا عن فيضان الوادي الناتج عن بناء السد.
تتابعت بعد هذا الحدث الاتفاقيات والاجتماعات التي تهدف الى حماية اثار وتراث العالم من التهديدات الطبيعية والبشرية, وصولا الى العام 1978 حيث تم ادراج أول 12 موقع في العالم في قائمة اليونسكو للتراث العالمي. هذة القائمة التي اخذت تنمو يوماً بعد يوم لتسلط الضوء والمسئولية العالمية عن مواقع تمثل تاريخ وتراث الحضارة البشرية على الارض. تضم قائمة اليونسكو للتراث العالمي اليوم 1011 موقع, مقسمة ما بين 782 موقع ثقافي, 229 موقع طبيعي أو مختلط.
بين هذا القائمة يقع 70 موقع في العالم العربي, سنكتشف معكم 10 مواقع مميزة أخترناها لكم.
نبحر معا في البحر المتوسط, ونحط على احدى الشواطئ الغربية لشمال أفريقيا, حيث تطل علينا تلك المدينة التي استوطنها الفينقيون منذ القرن الرابع قبل الميلاد للاشراف على التجارة القرطاجية. مدينة القصبة تعتبر من أجمل مدن البحر المتوسط مقامة على هضبة متكسرة من ارتفاع 118 متر. تتميز المدينة بابداع عمراني تداخل فيه المعمار الاسلامي مع التركي مع الاندلسي.
تتكون المدينة من خليط مبهر من المنازل القديمة, والحمامات ذات عيون المياه الساخنة, والقصور والمساجد. قد صممت شوارع المدينة وأزقتها في هيئة متاهة كبيرة يضل فيها الزوار الجدد.
عرفت المدينة لموقعها الاستراتيجي تاريخ عنيف اختلطت فيه المقاومة بالثورة بجماعات العنف المسلح. فكما احتضنت المدينة جميلة بو حيرد وحسيبة بن بوعلي بطلات الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي كذلك عرفت المدينة كمعقل لجبهة الأنقاذ الأسلامية التي قاتلت السلطات الجزائرية فيما عرف باسم (عشرية العنف)والتي راح ضحيتها ما يقرب من 100 الف قتيل سالت دماء كثيرا منهم في طرقات القصبة.
تعاني القصبة اليوم من غياب الاهتمام الحكومي والاهمال وتتمنى أن تنال ما تستحقه لاحياء عمران وتاريخ لا يماثل في مدن المغرب العربي.
شاهد القصبة اليوم
8 – سامراء (العراق)
نرسو الان على الضفة الشرقية لنهر دجلة على بعد 118كم من بغداد. هناك حيث عاصمة الخليفة العباسي الذي حكم من تونس لأسيا الوسطى. سامراء هي العاصمة الاسلامية الوحيدة التي لازالت تحتفظ بمعظم تفاصيل معمارها ومازال اكثر من 80% من اثارها لم يستكشف بعد. ولقد شيد الخلفاء الذين سكنوا المدينة قصوراً وحمامات وقاعات ملكية وحدائق، بل وحتى ملاعب وساحات لسباق الخيل. وتضم المدينة جامع الملوية (الجامع الكبيرة) بمأذنته اللولببية الشهرية التي يبلغ طولها 52 متر.
في عام 2007 في أعقاب التفجير الذي أصاب مسجد العسكريين (ضريح الامامين ذو القيمة الدينية عند الشيعه المسلمين) تم ادراج الموقع ضمن قائمة مواقع التراث العالمي المهددة. مؤخرا وفي يونيو العام الماضي حاصرت مليشيات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) المدينة وظلت في اقتتال مع القوات الجيش العراقي المدافعة عن المدينة المقدسة لتجذب انتباه العالم للخطر المحدق بتراث المدينة.
تقرير مصور عن مدينة سامراء
7 – البتراء (معان-الأردن)
بين ضفاف البحر الاحمر والبحر الميت, تقع عاصمة مملكة الأنباط. المدينة العظيمة التي بنى نصفها وحفر النصف الأخر في منحدرات جبل المذبح, تصمد هناك في كبرياء معماري مبدع منذ العام 312 قبل الميلاد. عرفها جيدا تجار العالم, كمحط للقوافل العابرة بين الجزيرة العربية ومصر القديمة وسوريا الفينيقية حيث تواجدت بضائع الأرض من الحرير الصيني الى التوابل الهندية.
للمدينة قيمة ثقافية كبيرة ترجع الى السلم الجيولوجي الذي يظهر من خلال التكشفات الصخرية عن العصور التي تطور فيها التاريخ في هذة المنطقة. ساعد التصميم العبقري لنظام جر المياه بالمدينة الصخرية على بقاء نشاطها ابان مملكات الانباط و الرومان والبيزنطيين ثم أختفت المدينة بعد ذلك حتى خاض الشاب سويسريBurckhardt وهو في السابعة والعشرين من عمره مغامرته متخفيا كبدوي مسلم ليكتشف المدينة المفقودة عام 1812 . من الحقائق اللطيفة عن المدينة أن أسطورة الأدب والدرما الامريكية Indiana Jones تم تصوير كثير من مشاهد أفلامها داخل جدرانها.
6 – وادي قديشا (قنوبين) – غابة أرز الرب (لبنان)
نرحل الأن خلف أفواج الائجين الى شمال لبنان, الى الوادي الذي أوى نساك ورهبان فروا من الحروب الدموية والاضطهاد الديني. تنتشر في الوادي الأن أولى الأديرة المسيحية (خاصة الطائفة المارونية) في العالم جنبا الى جنب الى النسق الطبيعي الخلاب للكهوف التي تحتل أجزاء كبيرة من جنبات الوادي المقدس.
يقع الوادي على بعد 121 كم من العاصمة بيروت, ويجري في عمقه نهر قاديشا (أبو علي) الذي اكتشف منبعه القديس John Jacob في مغارة قاديشا عام 1923. اليوم لن تجد بهاء النهر الذي عرف به قبل فيضان 1955 . لكنك ستجد عند أقدام المغارة اخر بقايا الغابات العتيقة في العالم وهي غابة “أرز الرب” التي تُشرف عليها “القرنة السوداء”، أعلى قمم جبال لبنان. وتمتد الغابة لمساحة 11 هكتار تضم أشجار تعود أعمارها الى 2500 عام استعملها المصريين القدماء والفينقيونفي بناء السفن وهي من الغابات النادرة في العالم التي لايزال ينبت بها الأرز حتى اليوم.
نعم, مازاكان ! هي أولى المستعمرات الأفريقية للبرتغال في القرن السادس عشر. بنى الأخوين Francisco and Diogo de Arruda أولى القلاع بالمدينة الساحلية بتصميم ايطالي يعبر عن معمار عصر النهضة الأوروبي. وبعد رحيل البرتغالين هجرت المدينة حتى تم اعادة احيائها في القرن التاسع عشر تحت اسم (الجديدة) وهو الاسم الذي تعرف به اليوم بالمغرب. تتميز المدينة بحفاظها على التصميم النادر الذي يعكس التداخل المعماري الاوروبي والمغربي بين القرنين السادس عشر والثامن عشر ويوضح معالم الثقافة والتطور التكنولوجي في هذة العصور.
اكتشف مدينة الجديدة مع تقرير اليونسكو
4 – محمية سقطري(اليمن)
يجب أن تصدقني عندما أقول لك أن ليس هناك مكان في العالم مثل هذة الجزيرة !
هناك حيث ينتهي القرن الأفريقي قرابة خليج عدن, تقع أربع جزر يمنية ليس لها مثيل على الأرض. بالفعل ! فالحياة النباتية والحيوانية في محمية سقطرة غنية بالنوادر. فأكثر من 37% من فصائل النباتات و 90% من الزواحف, و 95% من القواقع لا توجد في أي مكان اخر على الارض . وكذلك تحتضن المحمية 192 نوع من الطيور و 253 نوع من الشعب المرجانية, و 730 فصيلة من الاسماك.
وصف الدهشة والجمال النادر لهذة الجزر لا يكتمل بالكلمات, لذا سنترككم مع معرض الصور المذهلة من ناشونال جيوجرافيك لينقل لكم هذا الجمال هنا.
كما يمكنك أن تطوف في سحر المحمية مع هذا المقطع القصير
3 – طريق اللؤلؤ (البحرين)
العام 1930 كان جيدا للغاية في اليابان وكئيبا على تجار مدينة المحرق ثالث المدن الكبرى بالبحرين. في ذاك العام اخترعت اليابان اللؤلؤ الصناعي, لتهز عرش المملكة التجارية التي شيدها تجار اللؤلؤ في الخليج العربي منذ القرن الثاني الميلاديحيث عرفت هذة الجزيرة البحرينية أقدم مصادر اللؤلؤ الطبيعي في العالم.
يتكون الاثر الثقافي في الاساس من سبعة عشر مبنى وقلعة بوماهر وأماكن صيد المحار. واليوم تشرف الحكومة البحرينية على مشروع طريق اللؤلؤ الذي سوف يمتد من شاطئ بوماهر، ويمر بمواقع تعكس الفترة التاريخية لازدهار هذة الصناعة القومية منها مركز معلومات قلعة بوماهر، و بيت الغوص، ثم بيت الجلاهمة وبيت بدر غلوم للطب الشعبي، ثم بيوت تاريخية لكبار تجار اللؤلؤ وبعض المحلات ومسجد. ويمكن للزائر أن يشاهد خلال الطريق دورة اللؤلؤ البحريني منذ لحظة خروجه من قاع البحر وحتى وصوله إلى الأسواق العالمية.
2 – أرض الزيتون والكروم – قرية بتير (القدس-فلسطين)
القرية التي وقفت في وجه جدار الفصل العنصري.
قرية بتير التي تقع على بعد بضع كيلومترات جنوب غربي القدس في الأراضي الجبلية بين نابلس والخليل, يعيش بالقرية 1150 نسمة يمارسون زراعة عمرها 4000 عام في مدرجات الكروم والزيتون تسقى بقنوات ري تغذيها المياه الجوفية في منظر طبيعي جبلي خلاب.
ضمت اليونسكو هذا الموقع الى قائمتها للتراث العالمي في يونيو 2014 في دورتها المنعقدة بالدوحة لتتراجع بعده قوات الاحتلال الاسرائيلية عن عمليات بناء جدار الفصل العنصري التي كان مقرر له العبور بالقرية. نالت القرية في عام 2011 جائزة ميلينا ميركوري[19] الدولية لصون المناظر الثقافية وحسن ادارتها, وخاض مندوب دولة فلسطين الياس صنبر[20] صراعا تاريخيا في اللجنة ليفوز ب11 صوت لصالحه مقابل 3 أصوات جمعها المندوب الاسرائيلي ضد القرار لتنجو القرية الاستثنائية من خطر الجدار وتوجه صفعه سياسية قوية لمخططات الاحتلال العنصرية.
اكتشف مع صوت فيروز قرية بتير
1 – مملكة تدمر (سوريا)
اخر محطة لنا ستكون بالشام, بسوريا, في الواحة التي تقع في شمال شرقي دمشق. مدينة تدمر عاصمة مملكة تدمر التي أنفصلت بها ملكتها زنوبيا Zenobia عن الامبراطورية الرومانية لتكون مركز لتجارة العالم بين القرنين الأول والثاني. وقد ورد أول ذكر تاريخي للمدينة في مخطوطة بابلية وجدت بممكلة ماري بسوريا.
تنتشر اليوم أثار تدمر في الموقع التراثي على مساحة واسعة وتتكون من شوارع ممتدة تحيط بها الأعمدة وبوابات ومعابد ومسرح وحانات ومساكن وقصور وخزانات ومقابر وقلعة تاريخية.
في العشرين من مايو العام الماضي, استيقظ العالم على خبر دخول مليشيات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) المدينة. وانطلقت حملات الاستغاثة بين ربوع مثقفي العالم لمحاولة انقاذ المدينة التاريخية من المصير الذي نال اثار الموصل والحضر سابقا. لاحقا نجت اغلب اثار المدينة بالفعل من التدمير, حيث استهدفت (داعش) التماثيل فقط أما بالتحطيم أو بالتهريب للبيع لهواة التحف في العالم.
تجول معنا في اثار مدينة تدمر
للأسف البالغ, من بين موقع 48 مسجل باليونسكو للتراث العالمي كمواقع مهددة هناك 14 موقع منها يقعون في العالم العربي (20% من اجمالي المواقع العربية) موزعة بين سوريا والعراق واليمن ومصر.
