د.”نزار صابور”
الإلهام أثر الغموض في التجريد المعاصر
د.”نزار صابور” لـ :eCal فلسفتي الوجودية تسعى إلى السكينة والسلام
أعمالي تنم عن موقف إنساني عميق
علاء الجمّال:
د.”نزار صابور” فنان تشكيلي سوري، حدد لنفسه وجهة خاصة في الرسم مستمدة من الحياة والتاريخ والتراث.. عرف عنه الجدية في العمل والسعي الدؤوب نحو اختراق الشكل الملموس وكشف خفاياه ودلالاته المكنية، وإظهارها بلغة اللون المركب الماثل إلى فلسفته وموقفه من الخلق والإبداع.
eCalendarزار الفنان التشكيلي د.”نزار صابور”، في/7/11/2008/ بمنزله بضاحية “قدسيا ـ دمشق”، وأجرى معه الحوار التالي باحثاً في رؤيته للفن التشكيلي عموماً، وأسلوبه في إعادة الصياغة للواقع المحسوس والمتخيل:
*تغلب الرمزية على مشروعك البصري في التشكيل، فتبدو عناصر اللوحة لديك محتجبة عن الوضوح، فهل هذا متعمد أم أنه مجرد بحث وحالة وجودية وددت في تحويرها وإخراجها؟
**الرمزية هي حالة فنية خاصة، كانت ومازالت موجودة في العمل الفني، وأنا من أنصار عدم المباشرة في التعبير، وأعتقد أن للغموض مكانا بارزا في الفن البصري الذي يعطيه عمقا زمنياً، والفن بكل تجلياته البصرية محاط بالغموض، ولن تدرك أبعاده الحسية الكاملة مهما تعمقت الرؤية واتسعت فهو كالحياة ينكشف مع مرور الوقت، ومن هنا أقول: نعم أعمالي محتجبة عن الوضوح لهذا يقال أنها رمزية، لكنها في النهاية تنم عن موقف إنساني عميق وليست متعة لأي عابر سبيل .
*الحركة اللونية البسيطة من أعقد الأشياء في الرسم كونها تعتمد على الاختزال الشديد، فهل المرجعية باعتمادك عليها حالة تململ من العطاء الفني؟ أمأنها تأسيس لوجهة مغايرة في تشكيل عائد إلى مخزون كبير من الومضات والصور؟
**ما زلت في الحالة الإيجابية من العطاء، وتجاربي في التشكيل تحمل سمات الفرح والليونة، وناتجة عن مسارات فكرية متعددة ومزاج لوني منسجم مع تلك المسارات، وتجاربي جميعها تنحسر من حيث المبدأ في الإيجاز الشديد بين اللون والشكل، وأردت للإيجاز أن يظهر بتكوينات لونية متغيرة الشكل والمضمون.
* سادت في بعض الأعمال لديك مساحات لونية بيضاء واسعة، طغت في بعض الأحيان على الشكل البصري المجسد عبرها، ما الدلالة من وجود تلك المساحات؟
**كان ذلك في معرضي “سعادة ما أمكن” الذي نالت بعض أعماله جائزة بينالي “طهران” الدولي الرابع عام 2006، فالنغمات اللونية البيضاء التي سيطرت على التكوين التجريدي في اللوحة بحث قمت به، غايته الإحساس بالحرية والسعادة، وتعود بنفس الشعور على المتأمل، والحالة البصرية المجسدة عبرها تبقى مع ذائقته بين الرفض والتجاوب. أما الفهم لهذه المرحلة فإنه يختلف من مشاهد إلى آخر.
التشكيل يثير التصور والاكتشاف
*كيف تستلهم الرؤية من الواقع المحسوس؟ وما الشعورية التي تنتابك عند بثقها في حياة جديدة على سطح اللوحة لديك؟
**معظم المعارض التي قدمتها داخل وخارج “سورية”، أشكالها مستلهمة من الواقع الحياتي، من صور مختزنة في الذاكرة أخضعتها إلى حياة أخرى بصياغة جديدة لها علاقة بفكري وموقفي وإمكانياتي اللونية وحركتي البصرية. لا أدّعي أنني أرسم للجميع، فليس هناك من يستطيع أن يرسم للجميع، لكنني أرسم لأني أحب الفن وأجد فيه كل ما يثير رغبتي في الاكتشاف، أرسم لأكون موجوداً وأعبر عن تاريخي وموقفي، لأكون خالقاً للجمال بصياغتي وأحاسيسي اتجاه البشر والتاريخ والحياة، فتجد أشكالي أطياف أحلام عابرة في كون الواقع، أناس متوسلون قديسون نهارهم الصفو، لهم أشكال الهالة الشفيفة أو شكال من الطبيعةأاأأشكالاً مستلهمة من الطبيعة، مقدمة بحس لونيّ عال، وأحيانا أستلهم التاريخ والأساطير الشعبية والحكايات … .
* أنت باحث في التاريخ والتراثيات واستخلصت منهما الكثير من الأعمال التشكيلية حبذا لو تحدثنا حول هذا الجانب؟
**أثناء دراساتي الأولى “بدمشق” نهاية السبعينيات اهتممت بهذا الجانب واعتبرته مجالاً غني التأثير والإيحاء والإبداع التشكيلي.. كما عملت على فكرة إحياء الفن التطبيقي المشرقي وإحياء الأساطير الشعبية، وتقديمها بشكل معاصر بتعبيريتي ومفهومي حول صياغة النص البصري، وأفادني في تجربتي أشكال عناصر الكنائس الشرقية والبوابات والنوافذ والخزن القديمة، ولم أخجل من أني تعلمت فن التصديف والعجمي والحفر على الخشب.
“جلجامش” أسطورة حضرت في أعمالي لعدة سنوات.. “الأيقونة الشرقية” كانت مصدر إلهام مستديم لي، الشرق نفسه ظل ملهمي لمدة ربع قرن، الآن أعود إلى “الحضارة التدمرية” إلى الإبهار في النحت التدمري إلى الفلسفة العميقة بين “الحياة والموت”، لأحيي هذا الفن عبر مشروع تشكيلي أسميته “جدران تدمريه” مستخدماً لذلك تقنيات حديثة وستعرض تجربتي يوماً في “دمشق”.
التجريب بيت الاحتمالات للفكر واللون
* التجريب والتنويع المعرفي في الفن التشكيلي هما محك الإبداع، ما رأيك بذلك؟
**التجريب وكثرة التنويع المعرفي يصقلان الفنان، ويرفعانه إلى مرتبة الإبداع، إنهما وحدة متكاملة ويشكلان بيت الاحتمالات للفكر واللون والتكوين والمفردة، إنهما الحياة الدافقة لاستقدام المتخيل وإعادة صياغته بأسلوب تشكيلي، فإذا توقفا في الفن كالحياة عندما تتوقف في الموت. الفن له علاقة بوحدتك وذكرياتك وفراغك، والتجريب يحرضك على إخراجه وترجمته إلى عمل إبداعي، ويبقى للمناخ والظروف دور في إنجاح هذه المسألة، وعلى الفنان مسؤولية البحث عنها، فأنا مثلاً أغادر إلى “اللاذقية” للعمل في مرسمي بعيداً عن “دمشق” ومناخها الذي لا أتوافق معه.
* ما دور الفلسفة الوجودية في إغناء الذاكرة التأملية لديك؟
**كل شيء يحيطنا فيه دلالات تثير التساؤل والبحث هو فلسفة، وتحليله يعتمد على مفهومنا للحياة وعمق الرؤية البحثية لدينا. أما الفلسفة الوجودية عبر فضاءات التخيل لدي تحمل بين عوالمها الغموض وتسعى إلى السكينة والسلام.. هذا ما قاله الكثير من النقاد الذين رؤوا أعمالي وتعمقوا بمكنياتها الفلسفية، وهي في النهاية تمثل موقفي من الصراعات التي أقف أمامها باستغراب ولا أفهمها كثيراً.
الفن الأصيل هو الدائم
* يقول البعض: «إن معرضك التشكيلي الذي أقمته في صالة السيد “بدمشق” بعد عودتك من “موسكو” عام 1991 هو الأقوى بين معارضك، ما هو ردك على ذلك؟
**طبيعي أن يقال ذلك لأن الأشخاص البعيدين عن تطور الفن سيبقون متمحورين حول رأي واحد، وهنا أقول أن جميع التجارب التي أقمتها سابقاً تتصاعد بوتيرة تخلق تناقضاً شديداً وسط المهتمين.. وهذا التناقض دليل قوة وتميز ويجعل من التجربة الفنية مكاناً ملفتاً على صعيد الساحة العربية، فقد جرت معارضي عبر عدة محافل دولية ونالت جوائز مختلفة ، وإحدى محطاتها كان معرض “موسكو” ويتألف من مجموعة أعمال جسدت فيها تصوراً للمدن الشرقية وللناس المرتكنين في الظل والمشرقين إلى النور.. قسم منها توزع في الدول العربية و الأوروبية وآخر في “سورية” واستمرت بعض مفرداتها البصرية في ذاكرتي حتى اليوم، وأنا سعيد أن الناس هنا لا زالوا يتحدثون عنها إيجابا أو سلبا .
*أنت مع الخروج عن القواعد في الفن التشكيلي..كيف تجد تقبل الذاكرة المعاصرة للمفهوم الجديد في الرؤية التشكيلية المحدثة؟
**الفن يقترح قواعد جديدة يخرج عبرها عن المألوف إلى تكوين جمل تشكيلية بعيدة عن السائد، فبالتالي هذه الجمل ستهاجم إلى أن ينضج الفكر حولها ويتم قبولها، أما المشاهد العادي الذي يشكو من ضعف الثقافة البصرية، فأنه يجد صعوبة بالغة في فهمها وتقبلها، وكوننا في “سورية” اعتدنا كثرة الجمل التشكيلية الحلوة والمستساغة وتعذر وجود النقد الفني الذي من مسؤوليته تحليل الرؤية المعقدة وتبسيطها للمتأمل، فالفن ما زال يتخبط بين الحقيقي و المزيف بين الجاهز والمبتكر، وليس بالضرورة العمل الفني الذي يباع هو الأفضل والذي يروج له هو الدائم.. الدائم فقط هو الفن الأصيل.
نفس لا تسترخي مع بهجة الإنجاز
حول أعمال الفنان، قال الناقد التشكيلي السوري “سعد القاسم”: «”نزار صابور” صانع للقلق في واقع الحال، ليس القلق الذي نراه ظاهراً عن مزاج شخصي متقلب أو ما قد تصدم به لوحة معقدة عين المشاهد، وإنما القلق الباحث عن أسئلة لا تنتهي، والموقن أن في سكون التجريب وتوقف البحث موت الإبداع».
وأضاف: «إن “نزار صابور” واحد من الفنانين الذين لا يسترخون مع بهجة الإنجاز، ولا يكبلهم النجاح مهما تلاقى مع الطموح، فيجعلهم أسرى حالة تشكيلية أحبها المشاهد أو الذواق أو المقتني».
وقال “القاسم” حول التناغمات اللونية البيضاء في أعمال “صابور”: «لقد اختار “صابور” في تجربته الأحدث اللون الأبيض لصياغة أفكاره وأشكاله، كاشفاً بخبرته الثرية وبراعته كمصور وملون عن غنى هذا اللون وأهميته في اللوحة، معبراُ فيه عن الصفاء والطمأنينة.. متقبلاً رحابة الألوان الباقية حتى أكثرها تناقضاً ومثلها انكسارات الضوء على السطوح البارزة في تكويناته».
ببلوغرافيا الفنان
ولد “نزار صابور” في “اللاذقية” عام /1958/، تخرج في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة “دمشق” في العام /1981/، وهو أستاذ مساعد فيها ورئيساً لقسم الرسم والتصوير من 2005 حتى 2008 حاصل على دكتوراه فلسفة في علوم الفن ـ جامعة “موسكو” عام /1990/، له 30 معرضاً شخصياً داخل وخارج “سورية” والكثير من المشاركات في معارض مشتركة، كرم لأكثر من مرة، وأعماله مقتناة في أماكن مختلفة من العالم.