ما بعد البدايات
إضاءات
الثلاثاء26-7-2016
سعد القاسم
في عمود الأسبوع الماضي، جرى الحديث عن بدايات الفن التشكيلي السوري بمفهومه المعاصر، والتي تزامنت مع دعوات التحرر من الهيمنة الأجنبية، ومحاولات الاستفادة من التجارب الفنية القائمة حينذاك في الغرب الأوروبي.
بخلاف شمال إفريقية فإن مرحلة الانتداب الفرنسي تمثل أول احتكاك لسورية بالغرب بعد حروب الفرنجة، وبعد أن بدأ الغرب نهضته، وقد كان لهذا الاحتكاك أثره في الفن التشكيلي في سورية بفعل سفر عدد من الفنانين السوريين إلى أوروبا للدراسة والاطلاع، وكذلك قدوم عدد من الفنانين الفرنسيين إلى سورية سواء كمدرسين أو كجنود ضمن جيش الانتداب. لقد أدت هذه الظروف وغيرها إلى تعرّف الفنانين السوريين على التجارب الفنية العالمية، واتسعت دائرة المهتمين بالمدرسة الانطباعية بشكل خاص مع استمرار نمو التيار التسجيلي الذي صوّر ممثلوه كثيراً من المعارك الخالدة في التاريخ العربي، مثل حطّين والقادسية وذات الصواري والأندلس وسواها، وإذا كان يصحُّ هنا ما يراه بعض النُقّاد من أن هذه اللوحات قد جاءت بتأثير الحركات الوطنية المقاومة للانتداب، فلا يصح – في المقابل- اعتبار اللوحات الانطباعية تعبيراً عن تيار استعماري كما يرى نقاد آخرون. فقد كان في الانطباعية كأسلوب ما يغري الفنانين في بلد مثل سورية، تتصف الطبيعة فيها بفورة ألوانها، وتتكشف الشمس فيها معظم أيام السنة، مانحة الألوان قدراً ممتعاً من الوضوح والصراحة، ومن جهة ثانية فإن الانطباعية كانت بشكل من الأشكال إحدى طرق التعبير عن حب الوطن من خلال تصوير طبيعته الجميلة وفي كل الأحوال فإن التفسير السياسي لتطور الفن التشكيلي لا يعطي وحده الجواب الكامل، فمن الممكن أن يؤثر المناخ السياسي في تحديد المواضيع التي يصورها الفنان – وقد حصل هذا بالفعل- لكن للفن أيضاً أسباب تطوره الخاصة وهي أبعد من إطار السياسة وحدها، وكما أن نهاية الحكم العثماني شهدت بداية الفن التشكيلي السوري، فإن المرحلة الأخيرة من الانتداب الفرنسي شهدت بداية تكون الجماعات الفنية والتي مهّدت بذلك لقيام المعارض الفنية للجمهور. ففي عام 1940 أُسست أول رابطة تشكيلية في واحد من الأندية الفنية في دمشق (دار الموسيقا الوطنية) وأقامت هذه الرابطة معرضاً فنياً جماعياً في كلية الحقوق، ومعرضاً ثانياً عام 1944 في معهد الحرية، شارك فيه القسم الأكبر من الفنانين السوريين إضافة لعدد من الفنانين الفرنسيين.
مع الاستقلال بدأت المرحلة الأكثر أهمية في تاريخ الفن التشكيلي السوري، فقد تعددت الجمعيات التي تهتم بالفن التشكيلي، وتجلّى أول مظهر من مظاهر رعاية الدولة للحركة التشيكيلية بإقامة أول معرض سنوي دوري، قدمت فيه جوائز لأفضل الأعمال المشاركة، ومن ثم صار هذا المعرض تقليداً سنوياً، وكذلك جوائزه التي استبدلت مع نهاية الخمسينات باقتناء بعض أعمال الفنانين المشاركين، وظهرت في الفترة ذاتها أولى المحاولات في الكتابة النقدية، ورغم أن الكثير من هذه المحاولات قد غلب عليها الطابع الأدبي لكون من تصدّى لها هم من الأدباء والكتّاب، فإنها بقيت بكل الأحوال الأساس الذي قامت عليه الكتابات النقدية اللاحقة، إضافة إلى أنها قدمت مساهمة هامة جداً في مجال تعريف الجمهور بالفن التشكيلي، خاصة وأن الجمعيات التي رَعت الفن التشكيلي ضمّت إلى جانب التشكيليين، الكتّاب والشعراء والموسيقيين وسواهم. لكن ذلك كله لا يعني أن الفن التشكيلي في سورية قد حقق انتشاراً واسعاً عقب الاستقلال، لكن يصحُّ القول أن المناخات الجديدة، والتوق إلى بناء الثقافة الوطنية، مهدا له الطريق للتطور والتقدم، والذي سيحصد نتائجه بعد بضعة عقود من بداياته.
استمرت الانطباعية في ازدهارها خلال الخمسينيات، إلا أنه ظهرت إلى جانبها اتجاهات جديدة لم تكن أقل أهمية منها حينذاك، وفي مقدمتها الاتجاه الذي قاده الفنان الراحل أدهم اسماعيل (1923-1963) للوصول إلى فن معاصر له هويته العربية الخاصة، والاتجاه التجريدي وأفضل من يمثله الفنان الراحل محمود حماد (1923-1989) الذي سعى لصنع لوحة تجريدية معاصرة بأسلوب خاص في استخدام الحرف العربي باعتباره عنصراً تشكيلياً، والاتجاه التعبيري ولا يزال الفنان فاتح المدرس (1922-1999) أهم رموزه، ثم الاتجاه الذي يوصف أحياناً بالتكعيبي وهو أسلوب خاص للفنان ممدوح قشلان (1929). أما أشهر ممثلي التيار الانطباعي خلال المرحلة بأكملها فهو الفنان نصير شورى (1920-1992) والذي كان من أنشط المشاركين في المعارض التشكيلية.
*الصورة:لوحة للفنان أدهم إسماعيل
http://thawra.sy/_View_news2.asp…