البيت الدمشقي وعراقة العمارة
منقول –
“دمشق” كلمة طالما رددتها ألسن المستشرقين والباحثين عن الحضارة والتراث والأصالة، ولعل أول ما يُخيل إليك عند سماع “دمشق” تلك العاصمة القديمة التي اشتهرت بمعالمها وأسواقها ورجالها البواسل ناهيك عن غوطتها التي تغنّى شعراء كثر بها …وخير مثل مصغّر عن دمشق وأهلها هو “البيت الشامي العتيق” بكل تفاصيله ومصطلحاته وجزئياته الدقيقة داخله وخارجه، والتي سنحدثكم عنها بالتفصيل:
البرّاني والدهليز والجواني والليوان :
عُرفت البيوت الدمشقية بتصميمها الفريد والمتميز بأسماء وألقاب لا يتداولها سوى أهل الشام بعضهم حافظ عليها واعتبرها ثقافة غنية بكل جديد ومثير، ومنهم الحاجة أم نصوح التي نشأت في بيت عربي والتي سألناها عن تلك الأسماء التي تُطلق على بعض الأماكن والأشياء داخل البيت …فبدأت من باب المنزل الخشب الثقيل المدقوق والذي يتميز بتلك المسامير الكثيرة ذات الأشكال الهندسية بسيطة أنيقة يليه (الدهليز) وهو ممر طويل سُمي حديثا بالكوريدور وفي منتصفه غرفة صغيرة صُممت لاستقبال الضيوف المستعجلين أو الذين أتوا لقضاء حاجة من أهل البيت، وإذا ما خرجت من هذا الممر رأيت قطعة من الجنة (أرض الديار ) فسحة سماوية يتوسطها بحرة كبيرة ذات نوافير مرتكزة على عمود حجري والورد الجوري يتناثر مع الياسمين وثمار الليمون والكباد والخضرة منتشرة في كل أرجاء المكان .
وأما الجوّاني فروعته وجماله يكمنان بتلك القاعة الكبيرة والفسحة الواسعة، وهناك غرف مخصصة للنساء والأطفال تسمى (الحرملك) إنه طراز من البيوت الشرقية البحته، حيث تكون المرأة (مستورة ) أي لا يراها أحد فالغرباء يدخلون ويخرجون دون أن يمروا بالقسم الجوّاني الذي تصل غرفه لإحدى عشرة غرفة منهم علوية تستعمل للمنامة وهي خمسة إحداها تسمى القصر لكبرها وكثرة زخرفتها وجمالها وجميعها مبنية من اللبن والخشب والحجر والأسقف خشب تطل على أرض الديار بشبابيك تفتح من الأسفل إلى الأعلى، وأما الغرف الأرضية فهي محيطة بأرض الديار وتكون للجلوس طوال النهار والطعام ولقضاء غفوة بعد الظهر .
يعتبر البيت الشامي التقليدي ماثرة من ماثر العمارة العربية بمواصفاته الفريدة التي اكتسبها خلال قرون من الازدهار الحضاري بلغ خلالها فن العمارة الاسلامية القمة في الابداع والتوزيع الوظيفي.
والبيت الشامي مثال صادق لجمال البيت العربي المغلق من الخارج المفتوح الى الداخل حيث نجد (ارض الديار) واسعة تتوسطها بحرة جميلة وتحيط بها غرف البيت المكونة من طابقين في اكثر الاحيان ويتصدر البيت الايوان والى جانبه غرفة الاستقبال المفروشة ولا يخلو بين شامي قديم من الشجر والازهار.
وقد يلاحظ الزائر لبيت دمشقي تاريخي اهتمام اهل الشام بتزيين وزخرفة الدور من الداخل وكانوا ينظرون في البناء الى ثلاثة مقاصد في ان واحد هي المحافظة على الدين والصحة وطبيعة الاقليم معا.
والنافذة في البيت الشامي لابد منها لنفوذ النور ودخول الشمس وتجديد الهواء وكانت تفتح على صحن الدار والايوان والمشارق الواسعة فقط ولاتفتح على خارج الدور كالطرق بحيث يظل كل ما في الدار ضمن جدرانها ولا يتعداها بعيدا عن انظار الغريب والقريب على السواء.
وتكون صحن الدار معرضة للشمس الساطعة من الصباح حتى المساء يتخللها الهواء النقي.
ويقال ان اول بيت عربي شيد في دمشق كان للخليفة الاموي معاوية بن ابي سفيان حيث شيد داره التي عرفت بدار الامارة وبقصر الخضراء ايضا نسبة الى القبة الخضراء التي كانت تعلوها وكانت الى جوار الجدار الجنوبي (للجامع الاموي الكبير) تتصل به بباب خاص.
وعن الخصائص الجمالية والهندسة للبيوت الشامية القديمة يقول المهندس فرح العش” ان اجمل وصف قراته للبيت الدمشقي هو ماكتبه احد الباحثين الاجانب حيث شبهه بالمراة المتحجبة التي لايرى من محياها الا ما ندر” مضيفا ان “الوصف بابسط معانيه فيه العبرة التي اذا اردنا ان نصف البيت الدمشقي فيه لكان العبرة في البساطة الهندسية والتكوين والتشكيل الخارجي وروعة ودقة وابداع”.
والبيوت والدور الاثرية والتاريخية التي يمر بها الانسان في دمشق القديمة لايمكن ان تحمل هذا الوصف الا حين يدخلها المرء ويشاهد ما يستره الحجاب من عظمتها ومن البساطة والحشمة فيرى الزائر جدرانا باسقة وزخارف هندسية وفنية متناغمة واشجارا ونباتات متنوعة. وعندما يدخل الزائر احد البيوت الشامية القديمة العريقة فاول ما يواجهه عند بوابتها ما يسمى “الخوخة” التي تسمح بمرور الانسان وحيدا ضمن بابا البيت الكبير.
وهذه الابواب جزء من تاريخ العمارة العربية القديمة اندثرت صناعته منذ زمن بعيد اذ كان الباب الدمشقي يصنع من الخشب قطعة واحدة- درفة واحدة- وغالبا ما يكون خشبا مغلفا بالزنك وهناك نوع من الخشب المقوى وهما نموذجان بسيط مؤلف من درفة واحدة واخر كبير ضخم مؤلف من باب مرتفع يتوسطه اخر صغير لدخول الشخص وهو عادة من ابواب الاعيان والاغنياء وفي كثير من الاحيان يكون الطرف العلوي للباب على شكل قوس.
ومن مفردات البيت الشامي “الليوان” وقاعات الاستقبال والضيافة حيث لايخلو سقف الليوان من الزخارف الخشبية المنفذة بعدة اشكال فيرى الزائر في صناعتها الحشوات والملايات والسراويل وغيرها.
وهذه العناصر التزيينية توزع لتعطي في لوحتها النهائية هذا الديكور الفريد من نوعه ويتوزع فيه فتحات جدارية فيها الكوى وهي ذات ابعاد صغيرة وتستخدم للشمعدانات وقناديل الكاز او في بعض الابنية تجد فيها فتحة جدارية كبيرة ينسكب منها الماء من الاعلى وعبر نظام تمديد للمياه العذبة التي تذهب في حوض البحرة وهكذا يجد الزائر مراة تعكس نفسها فصوت الماء وجريانه والجو الرطب الذي يصنعه وكانه مكيف هواء.
ولا تخلو أي دار من هذه الدور الاثرية من قاعة رئيسية للضيافة والاستقبال ولاتخلو هذه من ارضية متفاوتة المناسيب لتخلق تيارات هوائية رطبة وعازلة وحافظة لدرجة الحرارة المعتدلة حيث الارضية الاساس عند المدخل والقطر الذي يرتفع بارضية عن الاولى فتكون هذه القاعات بقطر واحد او اثنين او ثلاثة احيانا.
ويكسو جدرانها الرخام المشقف والمطعم بالصدف او يكون منقوشا من الحجر الزاخر بالفن والابداع والاسقف يتوسطها ويحملها قوس حجرية ضخمة مزخرفة. وفي التوزيع العام تقسم هذه البيوت الى ثلاثة اقسام وهي السلملك للرجال والحرملك للنساء والخدملك للخدم.
الكازات والمنقل واستعمال صفوته :
بغياب الكهرباء والغاز لم يجدوا سوى استخدام الفحم للتدفئة فوضعوه بالمنقل الذي هو وعاء من النحاس يُشعل فيه الفحم، حتى يصبح جمرا ويكبر حجم المنقل بحسب الغرفة، ففي القاعات الواسعة تستخدم مناقل كبيرة ويوضع فيها الحطب بدلاً من الفحم …
صُمم اليوك في القاعة الخاصة بالحرملك، وهو تجويف في الجدار تغلفه (درفتان) من الخشب عليهما رسومات نافرة وجميلة، ويستعمل لوضع الحاجيات الشتوية من الملابس ..وأما في صدر القاعة خزانة كبيرة داخل الجدار فيها رفوف توضع عليها أواني صينية ثمينة ومزهريات زجاجية زرقاء وحمراء تسمى (الكازات) ناهيك عن الأواني النحاسية المطعّمة بالفضة وصور الأجداد وشمعدانات للإضاءة نادرة الصنع …
يلي ذلك المطبخ وهي الغرفة التي يقضي فيها النساء معظم يومهن، فيه بحرة صغيرة تُستخدم لغسل الصحون و(الوجاق) يتصدر المطبخ، وهوالموقد حيث يشعل فيه الحطب ويوضع عليه منصب الطنجرة أي القدر ولم ينسى أهلنا أن يصنعون للموقد فوهة تتصل بالمدخنة كي لاتخرج رائحة الطعام على أهل المنزل ..
الرماد المتبقي من المناقل ( الصفوة) له فائدة فقد كانت ميزته تنظيف الطناجر وجعلها برّاقة هذا عدا التبيّض الذي يتم للنحاسيات كل عدة أشهر.
الحمام داخل البيت العربي
بعد تطور الحياة فكّر أهل البيت، باستخام إحدى الغرف المحيطة بأرض الديار كحمام السوق وبالفعل أصبحت الفكرة جاهزة وأخذوا باستخدام (التنكة) أي قدر كبير مصنوع من التنك يملؤونه بالماء ويتم تسخينه ثم يجلسون على كرسي صغي يصبون الماء على أجسامهم مستخدمين الصابون والترابة الحلبية المعجونة بالورد تُذاب في الماء الساخن ويصبونها على شعورهم ..
من اهم المنازل الدمشقية قصر العظم ـ بيت السباعي ـ بيت نظام وبيت السقا اميني وهو من العصر المملوكي وبيت خالد العظم في سوق ساروجا والذي اصبح متحفاً في قسم منه، ومركزاً للوثائق التاريخية في قسم اخر اما مكتب عنبر فقد اصبح قصراً للثقافة ويتألف هذا البيت من ثلاثة بيوت قديمة تتصل ببعضها بعضاً عبر دهاليز وابواب ويعود تاريخه الى بداية القرن التاسع عشر.
اما قصر اسعد باشا العظم فقد انشئ عام 1749 م ليكون مقراً لوالي دمشق اسعد باشا العظم ويقع في مكان كان فيه قصر الخضراء الذي بناه معاوية بن ابي سفيان ويعد قصر العظم من روائع الفن المعماري الدمشقي بتصميمه وزخارفه وروعته. ويعد قسم الحرملك اكبر اقسام القصر حيث تزيد مساحته عن ثلثي مساحة القصر وهو مايسمى بقسم المعيشة يلحق به قسم الخدم، واسطبل الخيل، والعربات في الزاوية الشمالية الغربية، ويصف الدكتور عفيف بهنسي في كتاب سورية التاريخ والحضارة هذا القصر بأنه حول الفناء الواسع تقوم القاعات والغرف والايوان الكبير، وتمتد امامه بركة طويلة شبيهة ببركة جنة العريف في غرناطة كما وصف الزخارف الرائعة والاقواس الحجرية وحمامه في الطابق العلوي المؤلف من قبة ذات عيون زجاجية. والقصر تم ترميمه وحصل على جائزة اغا خان. كما حصل ايضاً مكتب عنبر على الجائزة.
من بيوت دمشق القديمة خلف قلعة دمشق يطلعلى نهر بردى