سحر الصورة.. وتنويعات علي الثقافة البصرية
سناء صليحة نشر في الأهرام اليومي
الصورة تساوي ألف كلمة عبارة شائعة وإن كانت أكثر تداولا وأهمية ودلالة بالنسبة للعاملين في ميادين بعينها كالاعلام والفنون ذات الصلة بالثقافة والادراك البصري. ومع التطور التكنولوجي والمعرفي اكتسبت العبارة السابقة, التي يرجع البعض أصلها لحكمة صينية قديمة, أبعادا أوسع وأكثر عمقا لتتضاعف قيمة الصورة مائة ألف مرة ولتصبح العبارة الصورة تساوي مليون كلمة, مع ملاحظة ان مضاعفة قيمة الصورة مرهون بما تقدمه الصورة من مفردات الخطاب البصري, وباسلوب ادراك المتلقي لها وحالة التراكم المعرفي التي تشكلها مجموعات الصور والتي تشكل في النهاية جزءا لايستهان به من الوعي والتفكير والمعرفة الانسانية, فالدراسات الحديثة أثبتت أن أرسطو لم يتزيد عندما قال إن التفكير مستحيل من دون الصور. فبالإضافة إلي الكم المهول من الدراسات التي تناولت تأثير الصورة في وسائل الاعلام الجماهيري وعمليات التعلم وتنشيط الانتباه والإدراك والتخيل, تطرق الباحثون لمجالات بحثية حاولوا من خلالها الربط بين الصورة وبين مجالات الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخ والتربية وغيرها. وفي هذا السياق تطالعنا دراسة الباحث الأمريكي جيروم بروز التي أثبتت أن عملية التذكر تصبح أكثر قوة وفاعلية إذا ما تفاعل الشخص مع الصورة( كما يحدث في حالة استخدام الكمبيوتر من حال الفوتوشوب أو الألعاب) لتصل ل80%, مقابل10% فقط عند سماع المعلومة, ترتفع ل30% فقط في حالة قراءتها(!!).
كذلك ففي ذات السياق( دراسة العلاقة بين الصورة والعلوم الانسانية), أقامت الجامعة الأمريكية بالقاهرة في الاسبوع الماضي الندوة السنوية التاسعة عشرة لأوراق القاهرة في الدراسات الاجتماعية تحت عنوان المشاهد كمصدر للمعرفة مناظرات حول الانتاج المرئي في الشرق الأوسط, التي عرضت للصورة وعلاقتها بعلم الانثروبولوجي والتأريخ والتوثيق وتشير د. ايمان حمدي أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية ورئيس تحرير سلسلة أوراق القاهرة في الدراسات الاجتماعية إلي أن الثقافية البصرية أصبحت جزءا مهما من علوم الانسانيات, حيث يمكن توظيف الصورة والفيلم الوثائقي ليصبح أداة للتحليل الاجتماعي والتاريخي والتوثيق. وفي هذا الاطار تشير د. ايمان حمدي للدراسة التي قدمتها د. مني أباظة للندوة وأرخت فيها لتاريخ قريتها ودراسة ديانا آلان المعنونة باسم أرشيف النكبة التي توثق التاريخ الفلسطيني وفيلم هني سرور دقت ساعة التحرير الذي يتناول ثورة دفار وفيلم جل البحر الذي يعرض لحياة اللاجئين في مخيم بجنوب لبنان, وأفلام أكرم زعتري عن الحرب الأهلية في لبنان.
ورغم أن الندوة قد اعتمدت الصورة والمادة الفيلمية كمادة توثيقية يمكن الاستعانة بها للتأريخ, حيث أوضحت الورقة التي قدمتها د. فدوي الجندي استاذ علم الانثروبولوجي بجامعة قطر أن الصورة أداة تحليلية وأنه يمكن من خلالها استنباط كثير من الحقائق عن البيئة واللحظة التي سجلتها, وهو ما أكدته ورقة هبة فريد التي تناولت مشروع توثيق التراث الحضاري والطبيعي المصري الذي يتبناه مركز توثيق التراث التابع لمجلس الوزراء, إلا أن شهادة ياسر علوان التي أكد فيها أن الصورة لايمكن أن تكون وثيقة موضوعية لأن عناصرها سواء من حيث زاوية الالتقاط أو الضوء أو التقنيات المستخدمة تعكس ذات المصور وقناعاته, أثارت جدلا بين الحضور وفتحت مجالات جديدة للحوار حول مصداقية الصورة والآليات التي تؤمن توظيفها كوسيلة للمعرفة والتأريخ.
ورغم أن الزمن والتطور قد أسقطا كثيرا من المفاهيم التي ارتبطت في أذهان الكثيرين حول الفروق بين الصور الفوتوغرافية والفن التشكيلي, حيث ميزت الأخير بقدرته علي تصوير ما وراء السطح وكشف أعماق الرسام والمادة التي ينقلها بريشته وأسبغت علي الأول مصداقية توثيق اللحظة, ورغم أن الصورة الفوتوغرافية والسينمائية لم تعودا خاضعتين فقط للمؤثرات الخاصة بمذاق وخلفية حامل الكاميرا بعد أن أصبح من الممكن تشكيلهما, بل وتزييفهما من خلال التقنيات الحديثة لتوظيفها دعائيا سواء للترويج لسلعة أو حتي مبدأ سياسي, ورغم أن فكرة التقاط الصورة لحفظ اللحظة واستدعاء الذكري باتت أشبه بفكرة متحفية عتيقة.. بالرغم من كل هذا وذاك فإن كل هذه المحاذير سرعان ما تهاوت في عقلي عندما أجابت السيدة رندة بري, حرم رئيس مجلس النواب اللبناني عن سؤال وجهته إليها دنيا الثقافة أثناء حوارها المفتوح مع رئيس تحرير الأهرام وعدد من كتابه عن حماية التراث الثقافي في جنوب لبنان والمناطق العربية التي تتعرض لانتهاكات ومحاولات لطمس الهوية.. مرة أخري تعود الصورة لتحتل موضع الصدارة كوسيلة للتوثيق والحماية, بل والسعي لدي بابا الفاتيكان والمنظمات الدولية لحماية هذا التراث وتفعيل الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتراث الثقافي العالمي.. تستفيض السيدة رنده بري في شرح جهود المنظمة الثقافية التي ترأسها والتي تسعي للحفاظ علي تراث لبنان وتأكيد هوية وانتماء أبناء جنوبه وعبر السطور ومن بينها يتأكد دور الصورة علي مستوي الجهد المادي والمعنوي لخلق الفرح من الحزن والحياة من الموت وخلق التحديات ومقاومة الانكسار.. ومع عباراتها تتابع في مخيلتي مجموعة أخري من الصور ومتوالية من المشاهد التي سجلها مدكور ثابت في فيلم سحر السينما الذي جمع في عدد لا بأس به من الصور والمشاهد التي تؤرخ لبعض من أوجه الحياة في مصر منذ بدء التصوير السينمائي في مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومجموعة أفلام جريدة مصر وسلسلة الكتب الوثائقية المصورة التي أصدرتها مكتبة الاسكندرية ومجموعات مجلة مصر المحروسة وكل الصور المعلقة علي حوائط عتيقة أو المزوية في أركان بيوت الأمهات والأجداد.. كلها تراءت في مخيلتي لتؤكد أنه مهما تدخلت العوامل الشخصية والأهواء الذاتية وحتي الأغراض الايديولوجية, العين الواعية قادرة علي التميز وستظل كل صورة علي حدة وثيقة تعكس ولو بعضا من الحقيقة وكل سحر الصورة.
[email protected]
الصورة تساوي ألف كلمة عبارة شائعة وإن كانت أكثر تداولا وأهمية ودلالة بالنسبة للعاملين في ميادين بعينها كالاعلام والفنون ذات الصلة بالثقافة والادراك البصري. ومع التطور التكنولوجي والمعرفي اكتسبت العبارة السابقة, التي يرجع البعض أصلها لحكمة صينية قديمة, أبعادا أوسع وأكثر عمقا لتتضاعف قيمة الصورة مائة ألف مرة ولتصبح العبارة الصورة تساوي مليون كلمة, مع ملاحظة ان مضاعفة قيمة الصورة مرهون بما تقدمه الصورة من مفردات الخطاب البصري, وباسلوب ادراك المتلقي لها وحالة التراكم المعرفي التي تشكلها مجموعات الصور والتي تشكل في النهاية جزءا لايستهان به من الوعي والتفكير والمعرفة الانسانية, فالدراسات الحديثة أثبتت أن أرسطو لم يتزيد عندما قال إن التفكير مستحيل من دون الصور. فبالإضافة إلي الكم المهول من الدراسات التي تناولت تأثير الصورة في وسائل الاعلام الجماهيري وعمليات التعلم وتنشيط الانتباه والإدراك والتخيل, تطرق الباحثون لمجالات بحثية حاولوا من خلالها الربط بين الصورة وبين مجالات الدراسات الاجتماعية والنفسية والتاريخ والتربية وغيرها. وفي هذا السياق تطالعنا دراسة الباحث الأمريكي جيروم بروز التي أثبتت أن عملية التذكر تصبح أكثر قوة وفاعلية إذا ما تفاعل الشخص مع الصورة( كما يحدث في حالة استخدام الكمبيوتر من حال الفوتوشوب أو الألعاب) لتصل ل80%, مقابل10% فقط عند سماع المعلومة, ترتفع ل30% فقط في حالة قراءتها(!!).
كذلك ففي ذات السياق( دراسة العلاقة بين الصورة والعلوم الانسانية), أقامت الجامعة الأمريكية بالقاهرة في الاسبوع الماضي الندوة السنوية التاسعة عشرة لأوراق القاهرة في الدراسات الاجتماعية تحت عنوان المشاهد كمصدر للمعرفة مناظرات حول الانتاج المرئي في الشرق الأوسط, التي عرضت للصورة وعلاقتها بعلم الانثروبولوجي والتأريخ والتوثيق وتشير د. ايمان حمدي أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية ورئيس تحرير سلسلة أوراق القاهرة في الدراسات الاجتماعية إلي أن الثقافية البصرية أصبحت جزءا مهما من علوم الانسانيات, حيث يمكن توظيف الصورة والفيلم الوثائقي ليصبح أداة للتحليل الاجتماعي والتاريخي والتوثيق. وفي هذا الاطار تشير د. ايمان حمدي للدراسة التي قدمتها د. مني أباظة للندوة وأرخت فيها لتاريخ قريتها ودراسة ديانا آلان المعنونة باسم أرشيف النكبة التي توثق التاريخ الفلسطيني وفيلم هني سرور دقت ساعة التحرير الذي يتناول ثورة دفار وفيلم جل البحر الذي يعرض لحياة اللاجئين في مخيم بجنوب لبنان, وأفلام أكرم زعتري عن الحرب الأهلية في لبنان.
ورغم أن الندوة قد اعتمدت الصورة والمادة الفيلمية كمادة توثيقية يمكن الاستعانة بها للتأريخ, حيث أوضحت الورقة التي قدمتها د. فدوي الجندي استاذ علم الانثروبولوجي بجامعة قطر أن الصورة أداة تحليلية وأنه يمكن من خلالها استنباط كثير من الحقائق عن البيئة واللحظة التي سجلتها, وهو ما أكدته ورقة هبة فريد التي تناولت مشروع توثيق التراث الحضاري والطبيعي المصري الذي يتبناه مركز توثيق التراث التابع لمجلس الوزراء, إلا أن شهادة ياسر علوان التي أكد فيها أن الصورة لايمكن أن تكون وثيقة موضوعية لأن عناصرها سواء من حيث زاوية الالتقاط أو الضوء أو التقنيات المستخدمة تعكس ذات المصور وقناعاته, أثارت جدلا بين الحضور وفتحت مجالات جديدة للحوار حول مصداقية الصورة والآليات التي تؤمن توظيفها كوسيلة للمعرفة والتأريخ.
ورغم أن الزمن والتطور قد أسقطا كثيرا من المفاهيم التي ارتبطت في أذهان الكثيرين حول الفروق بين الصور الفوتوغرافية والفن التشكيلي, حيث ميزت الأخير بقدرته علي تصوير ما وراء السطح وكشف أعماق الرسام والمادة التي ينقلها بريشته وأسبغت علي الأول مصداقية توثيق اللحظة, ورغم أن الصورة الفوتوغرافية والسينمائية لم تعودا خاضعتين فقط للمؤثرات الخاصة بمذاق وخلفية حامل الكاميرا بعد أن أصبح من الممكن تشكيلهما, بل وتزييفهما من خلال التقنيات الحديثة لتوظيفها دعائيا سواء للترويج لسلعة أو حتي مبدأ سياسي, ورغم أن فكرة التقاط الصورة لحفظ اللحظة واستدعاء الذكري باتت أشبه بفكرة متحفية عتيقة.. بالرغم من كل هذا وذاك فإن كل هذه المحاذير سرعان ما تهاوت في عقلي عندما أجابت السيدة رندة بري, حرم رئيس مجلس النواب اللبناني عن سؤال وجهته إليها دنيا الثقافة أثناء حوارها المفتوح مع رئيس تحرير الأهرام وعدد من كتابه عن حماية التراث الثقافي في جنوب لبنان والمناطق العربية التي تتعرض لانتهاكات ومحاولات لطمس الهوية.. مرة أخري تعود الصورة لتحتل موضع الصدارة كوسيلة للتوثيق والحماية, بل والسعي لدي بابا الفاتيكان والمنظمات الدولية لحماية هذا التراث وتفعيل الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتراث الثقافي العالمي.. تستفيض السيدة رنده بري في شرح جهود المنظمة الثقافية التي ترأسها والتي تسعي للحفاظ علي تراث لبنان وتأكيد هوية وانتماء أبناء جنوبه وعبر السطور ومن بينها يتأكد دور الصورة علي مستوي الجهد المادي والمعنوي لخلق الفرح من الحزن والحياة من الموت وخلق التحديات ومقاومة الانكسار.. ومع عباراتها تتابع في مخيلتي مجموعة أخري من الصور ومتوالية من المشاهد التي سجلها مدكور ثابت في فيلم سحر السينما الذي جمع في عدد لا بأس به من الصور والمشاهد التي تؤرخ لبعض من أوجه الحياة في مصر منذ بدء التصوير السينمائي في مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومجموعة أفلام جريدة مصر وسلسلة الكتب الوثائقية المصورة التي أصدرتها مكتبة الاسكندرية ومجموعات مجلة مصر المحروسة وكل الصور المعلقة علي حوائط عتيقة أو المزوية في أركان بيوت الأمهات والأجداد.. كلها تراءت في مخيلتي لتؤكد أنه مهما تدخلت العوامل الشخصية والأهواء الذاتية وحتي الأغراض الايديولوجية, العين الواعية قادرة علي التميز وستظل كل صورة علي حدة وثيقة تعكس ولو بعضا من الحقيقة وكل سحر الصورة.
[email protected]