علوم البناء الضوئى العكسى… ثورة صناعية جديدة
اكتشف العلماء طريقة طبيعية جديدة لتحويل ضوء الشمس إلى وقود حيوى ومواد كيميائية مفيدة عن طريق عكس عملية البناء الضوئى الطبيعية التى تقوم بها النباتات، وقد تؤسس هذه الطريقة الطبيعية لثورة صناعية جديدة فى مجال صناعة الوقود الحيوى والبلاستيك والمنتجات الصناعية الأخرى ويعنى هذا الاكتشاف أنه يمكن للمصانع زيادة سرعة إنتاج الوقود الحيوى والمواد الكيميائية الحيوية مثل البلاستيك تحت درجات حرارة منخفضة مع تعزيز كفاءة الطاقة وتقليل التلوث، لكن الأمر يحتاج إلى كثير من العمل للوصول إلى كيفية الاستفادة من هذه الفكرة بشكل عملى على مستوى الحياة اليومية.
استخدم العلماء مصطلح «البناء الضوئى العكسى» للتعريف بهذه العملية الكيميائية لأنها تستخدم أشعة الشمس والأوكسجين المتاح فى الغلاف الجوى لإنتاج روابط كربونية بدلاً من إنتاج الأوكسجين عن طريق البناء الضوئى، حيث تقوم أشعة الشمس بتحطيم الكتلة الحيوية النباتية بمساعدة أنزيم خاص، لتنتج فى النهاية مواد كيميائية يمكن استخدامها لإنتاج الوقود الحيوى، فضلا عن استخدامات صناعية أخرى.
ومن المعروف أن عملية البناء أو التمثيل الضوئى هى ظاهرة بيولوجية مهمة تؤثر فى حياة جميع المخلوقات الحية، وهى المصدر الرئيس لتكوين الأوكسجين، وهى عملية كيميائية معقدة تحدث فى خلايا بعض أنواع البكتريا والطحالب والنباتات العليا؛ حيث يتم فيها تحويل الطاقة الضوئية الشمسية من طاقة كهرومغناطيسية على شكل فوتونات الضوء إلى طاقة كيميائية تخزن فى روابط سكر الجلوكوز، كما تستعمل نواتج البناء الضوئى مباشرة فى تصنيع مركبات عضوية أخرى تدخل فى تكوين الأحماض النووية، والدهنيات، والبروتينات، وغيرها من المواد الكيميائية.
وتتم هذه العملية فى خطوات معقدة، تبدأ بسقوط فوتونات الضوء على البلاستيدات الخضراء داخل الخلايا النباتية، وعندما يصطدم الفوتون بإلكترون من إلكترونات الكلوروفيل يطلق طاقة ويستغل جزءا من هذه الطاقة فى شطر جزيئات الماء إلى أيونات الهيدروجين والأكسجين الذى ينطلق إلى الهواء بعد فصله من الماء المشطور.
وعلى النقيض من ذلك، اكتشف باحثون مؤخرًا نوعاً من الفطريات التى تمتلك آلية طبيعية لعكس عملية البناء الضوئى العادية، وتعتمد هذه العملية بشكل خاص على قدرة بعض الفطريات على استخدام عملية البناء الضوئى العكسى للوصول إلى المواد المغذية فى النباتات. وطور الباحثون هذه العملية لتحويل السكر والمغذيات الموجودة فى النباتات إلى وقود حيوى وبلاستيك.
نشر هذا البحث فى دورية «نيتشر كوميونيكيشن»، لفريق من العلماء فى جامعة كوبنهاجن الدنماركية، واكتشف هذا الفريق البحثى طريقة طبيعية يمكن أن تحطم الكتلة الحيوية النباتية، وتسرع الإنتاج، وتقلل استهلاك الطاقة، وتحد بشكل كبير من التلوث وأطلقوا على هذه العملية البناء الضوئى العكسى. وفى تجربة أولية قام الباحثون بخلط المكونات فى أنبوبة اختبار ثم تعريضها للشمس، فتفككت الكتلة الحيوية وأدت إلى تحلل جزئيات السكر الكبيرة ومن ثم تحولها إلى الإيثانول الذى يستخدم كمصدر للطاقة النظيفة. ووجد العلماء أن مثل هذه التفاعلات الكيميائية الحيوية تحتاج عادة ليوم كامل لتنتج الوقود المطلوب، ولكن إذا تمت هذه التفاعلات تحت أشعة الشمس، فمن الممكن أن يتم تسريع هذه التفاعلات لتنتهى فى أقل وقت ممكن، وقد تنتج الوقود فى غضون 10 دقائق مثلاً.
وبالمقارنة مع عملية البناء أو التخليق الضوئى التى تساعد على بناء السكريات المعقدة من أشعة الشمس، فإن عملية البناء الضوئى العكسى تجزئ نفس الكيماويات النباتية للحصول على المزيد من المغذيات الأساسية. وتعتمد هذه العملية على عمليات الأكسدة الضرورية لتحلل الكتلة الحيوية النباتية، ويفسر الباحثون هذه العملية بعملية أكسدة جزىء سكر معقد التركيب عن طريق فئة من الأنزيمات المؤكسدة القوية والموزعة على نطاق واسع، والمعروفة بالإنزيمات المحللة لعديدات السكاريد أحادية الأكسجين، والتى تحلل عديدات السكرايد الأكثر عنادًا وصعوبة فى الاستجابة للتحلل، والتى تتطلب مانحين للإلكترونات من خارج الخلية. وتوجد هذه الإنزيمات فى العديد من الفطريات والبكتيريا، وفى أنواع من الكلوروفيل (أو اليخضور) الناتج من خلاصة الأوراق الخضراء. ويستخدم هذا النوع من الإنزيمات أوكسجين الغلاف الجوى مع أشعة الشمس لكسر وتحويل الروابط الكربونية فى النباتات وإنتاج الأوكسجين كما يجرى فى عملية التركيب الضوئى.
ودرس العلماء تأثير استخدام أصباغ البناء الضوئى المثارة كمواد مانحة للإلكترونات خارج الخلية؛ حيث تتحد الإنزيمات مع الأصباغ وتتعرض العوامل المختزلة للضوء، مما يؤدى إلى زيادة لم يسبق لها مثيل فى النشاط التحفيزى والتى وصلت إلى 100 ضعف فى هذه التجربة. واتسعت خصوصية الركائز (المواد التى تعمل عليها الإنزيمات) لتشمل كل من السليلوز والهيميسيلولوز وهى من السكريات المتواجدة فى الخلية النباتية، وتشكل مواد أساسية فى جدران هذه الخلايا. وتتواجد كل هذه المواد الكيميائية ومشتقاتها فى بيئة الكائنات المحللة للنباتات، وبالتالى يمكن أن تشكل هذه الطريقة نظما مدفوعة بالضوء شديدة التفاعل ومستقرة، كما تؤدى إلى زيادة معدل دوران الإنزيمات من جهة أخرى.
وقد تجد مثل هذه التقنيات طريقها للتطبيق فى مجالات التكنولوجيا الحيوية والمعالجة الكيميائية قريبًا نظرا لأهميتها الكبيرة، ويؤكد الباحثون أن هذا الاكتشاف يغير قواعد اللعبة، حيث يمكنه أن يغير الإنتاج الصناعى للوقود والمواد الكيميائية، وبالتالى يحد من التلوث بدرجة كبيرة. ولكن لا تزال هذه الطريقة فى مراحلها المبكرة، وتتطلب دراسة وأبحاث أكثر للوصول إلى فهم كامل لكيفية الاستفادة من هذه الطريقة. ويؤكد الباحثون أن هذا الاكتشاف هو واحد من أعظم الاكتشافات فى هذا المجال خلال السنوات الأخيرة، ولكنه يحتاج للمزيد من الأبحاث والتطوير قبل أن يعود بالفائدة على المجتمع بشكل مباشر، ولكن مازالت احتمالاته التطبيقية هى الأعظم منذ عدة سنوات سابقة فى هذا المجال البحثى الصناعى المثير.
د. طارق قابيل
أستاذ التقنية الحيوية المساعد بكليتى العلوم والآداب – جامعة الباحة، السعودية، والعلوم، بجامعة القاهرة.
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة
جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر المصري اليوم