التصوير الفارسي.. تنويع آخر في التراث الإسلامي
ظهرت المانوية في إيران لتلعب دوراً بارزاً في ترسيخ التصوير واستخدامه كعنصر أساسي من عناصر هذه الديانة. وكانت التعاليم تشير إلى تنقيح الكتب الدينية بالرسوم المصغّرة، وكان يُعد ذلك من أجدى الوسائل للتبشير ونشر الدعوة المانوية. والمانوية هي الديانة التي أسسها المصلح الفارسي ماني الذي عاش في إيران خلال القرن الثالث. ماني النبي كان مصوّراً ماهراً، يدعو إلى ديانته مستخدماً التصوير في نشر أفكاره. بيد أن هذه الديانة وأتباعها عانوا الكثير من الاضطهاد على أيدي الساسانيين الذين كانوا يؤمنون بعقيدة زرادشت. كما أنهم تعرضوا في عهد الخليفة المقتدر في أواخر القرن العاشر الهجري لاضطهاد جعلهم يهربون إلى خراسان. لعب هذا الإرث الثقافي دوراً كبيراً في تأصيل الحركة التشكيلية الفارسية التي عمدت إلى رسم منمنمات كثيرة تتناول الأنبياء وسيرهم فيها.
ظلّ التصوير يواجه العقبات إثر اشتداد الحكم الإسلامي، ما دفع المصوّرين لاستخدام الخمار في رسوماتهم لحجب وجوه الأنبياء آنذاك. لذا كان التصوير يخضع لتلك المعادلة الضاغطة بين القيّمين على الدين وأحكامه وبين الحكّام والسلاطين. فما هو معروف عن ازدهار التصوير في إيران ينسب إلى تلك “الرعاية السامية” التي حظي بها المصوّرون خلال الحكم التيموري للبلاد، ناهيك عن كون كثير من الأباطرة أنفسهم رسّامين ماهرين.
وإن يكن التصوير مناقضاً لأحكام شريعة المسلمين، فإن استخدامه على أيدي الشرائح العليا في المجتمع، كان شائعاً في عهود عديدة من تاريخ الإسلام. فكثيراً ما تم استخدامه من قبل أقوام وعرقيات مختلفة عن الثقافة العربية، ما سمح ببلورة تلك التنويعات في موقف الإسلام من التصوير، ناهيك عن التنويعات الحاصلة على مستوى هوية الفن الإسلامي نفسه.
تصوير النبي محمد وسائر الأنبياء بدأ يظهر في أواخر القرن الثالث عشر في عصر مملكة الإيلخانات في إيران. وكان الإيلخانات تواقين إلى اصطناع ماض مجيد لهم يسبغ على حكمهم صفة الشرعية من الناحيتين السياسية والدينية. وكان هذا ما أدى إلى إنشاء المخطوطات المصوّرة.
ويكفي أن نتابع سيرة أشهر “مصوّري البلاط” الفارسي، بهزاد، لنتبيّن مدى ذهاب العهد الصفوي في دعم المصوّرين. وبالتالي نرى دور الشرائح العليا في التغاضي عن المحظورات. فالمصوّر بهزاد يشكل مفارقة في تاريخ التصوير الإسلامي. ولد في هراة عام 1450 ودرس النقش والتصوير على يد بير سيد أحمد التبريزي. وفي الأسطر الأولى من حياة المصوّر، نقف عند الطابع المهني للتصوير الذي كان سائداً في تلك الأزمنة. فهو تعلم على أيدي صنّاعين ومصوّرين موجودين أصلاً في المجتمع ويزاولون صنعتهم. لقد تلقى تعليماً حسناً بفضل رعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره علي شير، ولم يترك بهزاد مقره في هراة إلا بعد أن استولى عليها الشاه إسماعيل الصفوي سنة 1510م، فانتقل معه إلى تبريز وحظي عنده وعند خليفته الشاه طهماسب بمكانة قلَّ أن يصل إليها فنان قط.
من المعلوم لدى المؤرخين أن الشاه طهماسب نفسه كان مصوّراً ماهراً تلقى الفن على المصوّر المشهور سلطان محمد، وكانت بينه وبين بهزاد واغاميرك صداقة طيبة، والمعروف أن ازدراء المصوّرين قل في عهد الأسرة الصفوية وكان الأمراء وكبار رجال الدولة يعمدون إلى اقتناء أعمال الفنّانين. تبدو هذه الفقرة معبّرة عن تلك المكانة للمصوّر وأعماله، التي تتأرجح بين مشجع وطامس، بين حاكم يتهافت على اقتناء التصاوير، ويمارس بنفسه التصوير، وبين حظر التصوير والنشاط الإبداعي من خلال موقف الثقافة الإسلامية من التصوير على أيدي الفقهاء.
اقرأ أيضاً: ناظم الجعفري..رحيل المؤرشف البصري لدمشق القديمة
ظل مصوّرو البلاط الفارسي في العصر الصفوي، يعملون تحت رعاية سيد البلاط، يعملون باتجاه خلق قيمة موحدة في هوية الفن الفارسي. فيرى محمد زكي حسن أن هذا ما يمتاز به القرن العاشر الهجري. فإن الوحدة السياسية في العصر الصفوي قضت على الفروق في الصناعة بين الأنحاء المختلفة لإيران، فأصبح من العسير التفرقة بين الصور المصنوعة في شرقي الإمبراطورية وما صنع في الوسط أو في الغرب. إذ إن المصورين كانوا في كافة أنحاء الإمبراطورية يقلّدون مصوري البلاط في تبريز وقزوين. هكذا تبلورت اتجاهات فنّية وحرف داخل المجتمع الفارسي ووصلت إلينا المنمنمات بجماليتها الفنّية على الرغم من النواهي التي اعترضت عنصر التصوير.
– See more at: https://www.alaraby.co.uk/miscellaneous/2015/7/6/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D9%88%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B9-%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A#sthash.J6keTAnA.dpuf