الموسيقار سهيل عرفـة: تجاهل الأغنية السورية من قبل أصحاب القرار تخريب للهوية..حديث طويل مشوق معه
رغم صوته المبحوح، بسبب مرضه الذي أصاب حباله الصوتية، إلا أن الموسيقار «سهيل عرفة» ما زال، كما نعرفه، يملك صوتاً عالياً في وجه الخطأ، ويضع إصبعه في وسط الجرح تماماً،فبحسب رأيه لا أمجاد من دون آلام، وأكثر ما أزعجه في الفترة الأخيرة، وفي شهر رمضان بالتحديد، أن الإذاعة السورية كانت تُفضِّل الرَّديء على الدُّرَر التي تختزنها في أرشيفها من أغان وأناشيد تخص هذا الشهر، والأمر ذاته ينطبق على الأغاني الوطنية، إذ يستغرب الأصوات النشاز، التي تؤدي بشكل سيِّئ هذا النوع الغنائي، في حين أن مكتبة الإذاعة زاخرة بأغان فائقة الجمال للكثير من المطربين السوريين، وكأن ثمَّة قصدية في تعزيز الرداءة، وعدم اهتمام بالكفاءات القادرة على فرز الغث من السمين. يُبيِّن عرفة كيف لحَّن لفنان الشعب رفيق سبيعي وللمطربة نانسي زعبلاوي عدداً من الأغاني الوطنية، لكنّ الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بثتها بضع مرَّات من باب الواجب لا أكثر، رغم أنها تمتلك جميع مقومات الجمال، وهي أفضل بكثير من الكوارث السمعية التي تُكَرِّسها الإذاعة ويُبجِّلها التلفزيون باستمرار، يقول الموسيقار السوري: عاتبٌ على وزارة الإعلام، وأستغرب من تقليص مساحة الأغنية على حساب «برامج التنفيعة»، وأدعو الجميع لأن يتمثَّلوا حالة الجندي السوري الذي يُدافع عن هويتنا جميعاً، ففي رأيه تنبغي إعادة بناء مبنى الإذاعة والتلفزيون، بسبب الجراثيم التي فيه، والحفاظ على هوية الأغنية السورية إذ يعد نفسه آخر حُرَّاسها وعليه أن يُدافع عنها بشراسة، عن هذه المواضيع وذكرياته الغزيرة مع صباح ومحمد عبد الوهاب وفيروز وغيرهم، إليكم هذا الحوار:
يوضح صاحب لحن «ع البساطة» أن في إذاعة دمشق كانت هناك دائرة للتنسيق، وكان مدير الإذاعة يكتب قائمة يومية بالأغاني التي ستذاع على الهواء، شرط أن تكون فيها نسبة 60% من الأغاني السورية، يضيف: «الإذاعة أكاديمية خرّجت سهيل عرفة وعبد الفتاح سكر وعدداً من كبار المطربين والملحنين الذين استطاعوا أن يثبتوا مكانتهم العالية، فعبد الفتاح سكر قدَّم ألحاناً لكبار المطربين وتخصص بفهد بلان، وأنا أيضاً قدَّمت الكثير، لدرجة جعلنا المُطربين المصريين يغنون اللهجة السورية ومنهم عبد المطلب، وشادية، ونيللي، وكان ذلك قبل دراما دريد لحام، نحن كملحنين صدَّرنا نجوماً إلى العالم العربي، صباح مثلاً عندما عادت إلى مصر زمن عبد الناصر بعد غياب عشر سنوات، رغم أن في حوزتها ألحاناً لمحمد عبد الوهاب وفيلمون وهبة وغيرهم إلا أنها غنّت ع البساطة من ألحاني، بمعنى أننا كسوريين غزونا مصر بألحاننا، ولذلك على القائمين على الإذاعة السورية أن يفتخروا بنا كسوريين، فنحن من أوصل أنفسنا إلى ما وصلنا إليه، أنا كآخر من تبقى من حرَّاس الأغنية ينبغي أن أدافع بشراسة عنها، فأنا لا أدافع عن أشخاص، وإنما عن قيمة ثقافية».
أعداء الجمال
«ماذا ينبغي أن نفعل؟» نسأله، فيجيب بحُرقة كبيرة، ونصيحة من العيار الثقيل: «ينبغي أن نُهدِّم مبنى الإذاعة والتلفزيون ونعيد بناءه من جديد بالمعنى المجازي، ففيه الكثير من الجراثيم التي لا تنتهي، ألا تتذكروا أن أحدهم فجّر غرفة في المبنى بزملائه، العيب فينا». نحاول أن نخفف عنه، محيلين حديثنا إلى لجنة تقييم الأغاني التي كانت مسؤولة عن فرز الغث من السمين، فيؤكد أن اللجنة ما زالت قائمة، وكان عضواً فيها، لكن «مؤخراً دائرة الموسيقا في ساحة حرب، وبحاجة إلى جهود حثيثة ووعي أكبر، ومعرفة بكيفية الاستفادة من الأرشيف، مثلاً أنا الآن كل تفكيري منصب على حلب، وأفكر بتقديم أغنية عنها، كما قدمت لرفيق سبيعي، هذه الشخصية الجذابة، أغنية (لا تزعلي يا شام.. من قسوة الأيام.. ما زال فيكي عيون.. ع الضيم ما بتنام.. يا نعمة من الله.. الله معك الله.. وترابك الغالي بكل الدني كلّا) من كلمات سامر غزال وألحاني، وقام وزير الإعلام آنذاك عمران الزعبي بمُضاعفة أجرة الكلام واللحن والغناء تقديراً لنا، لكن هذا لا يكفي، ما دامت لم تُذَع كما ينبغي، في حين قناة شام إف إم كانت تذيعها باستمرار، معنى ذلك أن هناك أعداء للجمال داخل الإذاعة، رغم أنهم أصدقاء الصديق رفيق سبيعي، أيضاً قدَّمت للفنانة نانسي زعبلاوي صاحبة الطلة والحضور الجميل أغنية «ست الحبايب يا بلدي»، وكان مصيرها مثل سابقتها، عدم الاهتمام كما يجب، وغيرها الكثير. هناك مصيبة في إذاعة دمشق، الإذاعة الأم، أنك تجد الأغاني المصرية والخليجية والعراقية إلا السورية، في رمضان لم تُذع أي أغنية سورية، وهذا ما دعاني للالتجاء للصحافة، مكتبة الإذاعة فيها أكثر من خمسة آلاف أغنية عربية عن رمضان من الخمسينيات وحتى الآن، وبدل هذه الكنوز.. سمعت أحدهم على الإذاعة وكان صوته نشازاً ويبكي على رمضان، ويندبه بين الفينة والأخرى، وكأن رمضان مصيبة، وبدل الأغنية الوطنية الجميلة، أيضاً يُقدِّمون صوتاً نشازاً آخر يندب سورية والأغنية السورية، هذا غير معقول، وهناك برامج لا ترقى لأي مستوى، تُحشر على حساب مساحة الأغنية، من أجل منفعة هذا الشخص أو ذاك… لذا أدعو وزير الإعلام أن يُراقب ما تم بثُّه في رمضان، إن كان يحوي أي أغنية لفهد بلان أو فؤاد غازي أو مها الجابري أو صباح فخري أو عصمت رشيد أو رفيق شكري أو معين الحامد أو عبد الرزاق محمد..وغيرهم، فمثلاً في الأغاني الوطنية: «صباح الخير يا وطناً» نالت الجائزة الأولى في أكثر من مهرجان، وحتى السعودية تبثها، وشاعرها يمني اسمه «عباس الديلمي»، أين «يسعد صباحك يا شام»؟ هل يُعقل أننا نحب الأغنية فنبثها مرتين أو ثلاثاً ثم نرميها، أليست هناك أغنية خاصة بشهر رمضان؟ أليست هناك أغانٍ سورية؟ بلغ السيل الزبى».
ردع وعتب
لا يكتفي «عرفة» بهذا القدر من بث همومه، فشغفه يجعله شرساً بخصوص الموسيقا والأغنية والإنسان، يقول: «المدير العام رامز ترجمان بات وزيراً الآن، والمفروض أنه يعرف كل شيء، في المبنى هناك مخربون، فتجاهل الأغنية السورية من قبل أصحاب القرار هو تخريب للهوية، خلال تاريخي الفني لم أستخدم سوى اللهجة السورية، رغم أن شادية مثلاً أحضرت أثناء تصوير فيلم «خياط السيدات» كلاماً باللهجة المصرية لألحّنه، لكنني رفضت، وأعطيتها حينها لحن «يا طيرة طيري يا حمامة»، بمعنى أنني بقيت محافظاً على الهوية السورية للأغنية، وأنا دائماً أقول إنني كمواطن فأنا عربي، أما كملحن فأنا سوري ثم سوري ثم سوري، ومثلي عبد الفتاح سكر أيضاً، ومحمد محسن لديه نَفَسٌ سوري، لكنه هرب وراء المال، في حين أنني مع قلائل بقينا على تراب المال من أجل بناء الأغنية السورية، فلماذا تعاملونها هكذا، هل أنتم من كوكب آخر؟ فإلى جانب الألم الجسدي بات لدي ألم نفسي».
نسأل الموسيقار السوري «ما الحل؟»، فيجيبنا ببساطة: «أولئك بحاجة إلى ردع، والمخضرمون من المخرجين العتب عليهم أكبر، لأنهم يعرفون ما يمتلكون من مخزون، وبصراحة هناك اتهام للحكومة السابقة، وسيتحول إلى اتهام للحكومة الحالية، إن لم يتم إصلاح الأمور، فلا ينبغي أن تكون «داعش» من ناحية والحكومة من ناحية أخرى، ينبغي أن تكون هناك محاسبة، وليس مجرد أن نترك المسؤول يذهب إلى بيته بعد أن ينهب ما ينهبه بالاتكال على منصبه، وفي رأيي ينبغي أن يُعاد عصر الحجاج في التعامل مع هؤلاء البشر، الحُكْم بالسيف، بالمختصر، الأزمة أزمة أخلاق وضمير، في المحطات الإذاعية الخاصة لا يتقبلون الوساطات، بل هم بحاجة إلى أشخاص يمتلكون المعرفة ويستثمرون فيهم. وليس بعيداً جداً عن وَجَع الأغنية، المواطن يتحدث عن الغلاء باستمرار، في السابق كان الراتب يكفي ويزيد، أما الآن فلا يعني شيئاً، في لبنان لا إنسان يشعر بالغلاء لأنهم يتعاملون بالدولار، السوريون ظُلموا، وهناك أُناسٌ لا يستطيعون أن يأكلوا حتى الـتسقية. أيام عمر بن الخطاب كانت هناك امرأة تطبخ الحجارة، الآن يتكرر المشهد ذاته في سورية، أين الحكومة من ذلك؟ إيران وروسيا والصين يساعدوننا، ونعرف أن الموضوع دين ووفاء، لكن مادمتم تستدينون فاستدينوا أكثر، ودعوا المواطن السوري يعيش».
أعظم صوت عرفته سورية
الفنان «عرفة» خزَّان من الذكريات، لا تلبث أن تذكر له اسماً، حتى يُخبِرك أقاصيص وحكايا عما جمعهما، ففي تاريخه الفني الطويل، الذي زاد على الخمسين عاماً، أُتيح له التعامل مع الكبار من موسيقيين ومطربين وملحنين… لذا حاولنا عبر هذا الحوار أن نستزيد بشيء مما عنده، فكانت البداية مع «ربى الجمال»، يقول: إنها ضحية الإدمان، عندما توفي نجيب السراج كانت الوحيدة من الفنانين في جنازته، قالت لي حينها: لم يبق لي غيرَك بعد نجيب. مرّة كنا نريد أن نكرِّمها في مهرجان الأغنية، وطرحت عليها أغنية وطنية لنجيب السراج، فوافقت عليها، مع معرفتي بعدم التزامها بمواعيدها، لذا قمت باحتياطاتي بأن دربت عليها الكورال، وفعلاً لم تأتِ في الوقت المحدد، فغناها الكورس، ربى الجمال أعظم صوت عرفته سورية، لكنها نزقة، وألحاني كنت أدربها عليها عبر التلفون، ومنها أغنية «أيام الهنا»، وهي عبارة عن قصة صبية تقول لحبيبها: «يا حبيبي شو عملتلك أنا.. نيمتك بعيوني.. وغطيتك بجفوني.. ودمعاتي الحنوني.. بتقلك ضيعان.. ضيعان أيام الهنا».
وعن حلمه بأن يُلحِّن للسيدة فيروز بعد الفرصة الضائعة في فيلم «سفر برلك» يوضِّح: نادر الأتاسي رحمه الله، طلب مني أن ألحن أغنية لفيروز، فقمت بذلك على نمط العراضة الشعبية، حيث تكون منسجمة مع أغنية «خطة قدمكن» التي فيها اعتماد على الكورال أيضاً، لذا صُغت لحني بالتفكير نفسه، وبعدها فاجأني نادر بأن الرحابنة ارتأوا أن يغنيها الكورس فقط، فرفضت وأعطيت الأغنية لسميرة توفيق، وهي «سيروا يا رجال على ما قدر الله»، فيروز كل ملحن يتمنى أن يقدم لها ألحانه.
أميرة الأغنية
صباح أولاً أميرة الأناقة وأميرة الأغنية بكل معاييرها، وصباح لا يمكن أن تراها إلا مُبتسمة، وأنا أذكر أول موعد معها، والذي نسَّقه «تحسين قوادري»، وعندما دخلنا إلى منزلها، تفاجأت بأن عندها ضيوفاً: سعيد فريحة، جورج إبراهيم الخوري، بليغ حمدي، وردة، عاصي الرحباني وفيروز وممثل نجم من إيران، حينها، وذوقاً مني، أخذت فنجان قهوتي وخرجت إلى الشرفة، بعد قليل لحقت بي صباح، ومعها صحن فيه شوكتان قائلة: سنتعشى معاً، فقلت لها: وضيوفك؟، أجابت: ضيوفي يأتون ويرحلون، أما أنت فستلحن لي، هذه صباح. فيروز بلا الرحابنة لا قيمة لها، والعكس صحيح، كانوا ثلاثياً متماسكاً جداً، ونجحوا مع بعضهم، لكن صباح تعاملت مع كل الملحنين، وتتأقلم مع الجميع، فهي ذكية.
نُشاكسه، لنعرف رأيه الموسيقي بكل من صباح وفيروز، فيقول: «صباح لا ينقصها شيء حتى لو كانت وحيدة، أما فيروز، فبوجود الرحابنة، لا ينقصها شيء».
نسأله عن محمد عبد الوهاب، فيستذكر كيف أن إحدى القنوات الكويتية أجرت معه لقاء، وجاء هذا السؤال نفسه: ما رأيك بمحمد عبد الوهاب القديم والحديث؟ حينها أجبت: «عبد الوهاب أستاذ لثلاثة أجيال، ونحن كجيل ما زلنا نتغذى من مائدته»، وأضفت: «أنا لا يحق لي أن أعطي رأياً فيه»، حينها جاء مهندس الصوت وطلب إعادة تسجيل الحلقة، واكتشفت أنه لم يكن يسجل اللقاء، حتى قلت ما قلته عن عبد الوهاب، وأخبرني بعدها أن كمال الطويل ومحمد الموجي يتكلمون بغرور عنه، وكأنه رفيقهم في المدرسة، بعكس ما فعلت أنا.
محمد عبد الوهاب دمّه خفيف، التقيته في بلودان مع المطرب محمد سلمان، وحينها سألته مجموعة أسئلة، كالتي تسألني إياها الآن، وكانت إجاباته حادة في الذكاء والمعرفة كالآتي: ما رأيك بالسنباطي؟ بحر من الموسيقا، القصبجي؟ أول من طور الأغنية العربية وأستاذي في العود. زكريا أحمد؟ لو خلق في بلد راقٍ لسمّوا شوارع باسمه، وهو ملك نغمة الصبا. فريد الأطرش؟ بحر من الموسيقا الشرقية لكنه أحياناً يستعجل في الأغنية الشعبية. محمد الموجي؟ الكريات البيض والحمر كلّها «مزّيكا». كمال الطويل؟ جملة موسيقية رشيقة. محمد فوزي؟ سابق عصره بمئة سنة وهو خليفتي. طيب وعبد الوهاب؟ أنا كُلِّ دُوْلْ.
نسأل «عرفة» عن وديع الصافي؟ فيقول: كان حساساً وراقياً في التعامل مع اللحن، التعامل مع الكبار يريح كثيراً. السيد مكاوي وعمار الشريعي؟ «يرون ما لا نراه نحن»، فالشريعي يؤلف موسيقا تصويرية وكأنه يرى المَشَاهد. فايزة أحمد؟ كنت أتمنى لو لحنت لها، لكنها كانت في مصر عند اعتمادي في افتتاح إذاعة دمشق كملحن، سعاد محمد؟ اجتمعت معها في بيروت، وأذكر ما قاله عنها محمد عبد الوهاب عندما سألوه ألم تفكر أن تلحن لها، فأجابهم: كلما فكرت في ذلك إما أن تكون حاملاً أو في طور الولادة، مها الجابري؟ من الأصوات العظيمة التي خسرناها. ميادة الحناوي؟ إمكاناتها عظيمة، إلا أنه حتى تُعرَف هويتها، كان ينبغي، في بداياتها، أن تغني باللهجة السورية وليس المصرية، ولو من التراث، وفي رأيي هذه خطيئتها الوحيدة، بدليل أنها بعد فترة طويلة غنت اللهجة السورية ونجحت.
نسأله عن نصيحته للفنانين الشباب بأن يقرؤوا كتابَ ذاكِرَتِهِ «الكلمة والنغم» ليعرفوا حجم العمل والمعاناة ثم يبدؤوا، فيقول: رائد المعاناة هو أبو خليل القباني حيث كانت في المجتمع عقول متحجرة أكثر، فباسم الدين، حرقوا له المسرح في دمشق كُرهاً، وفي مصر غيرةً، والجيل الذي بعده كان أقل معاناة، فقد كان البيت ضدك والحكومة ضدك… هكذا حتى بات الفن رسالة وليس حَراماً، في بدايتي كنت متأثراً بوالدي الذي كان يأخذني إلى الجامع، وأعاتب أخي أحمد وأقول له: عيبٌ ما تقوم به، فالغناء حرام، لكن المفارقة أنني صرتُ فناناً بينما أخي صار حاجّاً.
الوضوء بالموسيقا
فكرة الكتاب طرحتها الدكتورة نجاح العطار على وزير الثقافة آنذاك، وأنا اخترت صديقي ياسر المالح ليشتغل عليه، لكن الأجل وافاه قبل أن يُكمله، فأكملته زوجته «أمل خضركي».. وأنا لم أركز على المعاناة وإنما على التوثيق، الأغاني الشعبية والوطنية والعاطفية والأغاني المخصصة للأطفال التي كانت من إنتاجي أيضاً وليس فقط ألحاني، وكنت آخذ كلمات عيسى أيوب، مصطفى عكرمة، صالح الهواري، أحمد قنوع، وغيرهم، وكان مستشاري صديقي «يوسف صيداوي» الذي كان حريصاً جداً عليّ وعلى ما أشتغل، فالموسيقا طاهرة لا ينبغي أن نُركِّب عليها كلاماً سخيفاً، بل ينبغي أن يكون خدمة للمجتمع وفيها رسالة، فعندما يتوضأ الفنان بالموسيقى، يفسد وضوءه الكلام غير الجميل، بكل فخر أقول إنني لست أكاديمياً لكن الحياة علّمتني، وخلال خمسين عاماً عشت ضمن حالتين: حالة ألم الفشل وحالة مسؤولية النجاح، فحالتا الفشل والنجاح ينبغي على الإنسان أن يدرسهما بشكل كامل لمعرفة أسباب الفشل وتعزيز أسباب النجاح، وأول نصيحة وجهتها لابنتي أمل: لا تفرحي كثيراً بالنجاح، بل ينبغي أن تحافظي عليه، وفي حال واجهتك ظروفاً قاسية حافظي على مكانك، والمهم ألا ترجعي إلى الخلف.
لا أحب أن أُقلِّد غيري
نسأله: هل ثمة لحن كنت تتمنى لو أنك مَنْ لحنه؟ فيرد بكامل الثقة: «لا أحب أن أقلِّد غيري، لكن اللحن الجميل يُشكِّل لدي حافزاً كي أصنع مثله، فمثلاً أحببت كثيراً لحن السيد مكاوي لصباح «أنا هِنا يا ابن الحلال.. لا أنا عايزة جاه ولا كتر مال» ففيه رائحة الحارة الشعبية المصرية. لذا مرة أهديت صباح في عيد ميلادها لحناً لكلمات عمر حلبي: «واللهِ ثم واللهِ.. يا أسمراني اللون» وكانت حينها على صداقة مع رجل أعمال سعودي، وكان موجوداً حينها، فطلب مني حضور حفل عيد ميلادها، فاعتذرت بسبب موعد للتسجيل ضمن التلفزيون العربي السوري، فسألني: كم ثمن التسجيل في الشام؟ قلت: 170 ورقة، فقال لي ابقَ وأعطيك عشرة أضعاف هذا المبلغ، فأجبته: لا أبيع الموعد. حينها قال لصباح: هذا السوري من أجل موعد رفض عرضي، بينما ضيوفُكِ يتخاطفون الشيكات من يدي خطفاً».
يختم «عرفة» حواره معنا: اسم سورية مقدس بالنسبة لي، وكل السوريين أيضاً، ورغم ذلك لم أُضمِّن في كل أغنياتي الوطنية التي ألفتها مؤخراً، اسم سورية، وإنما الشام حتى يتغنى بها أي إنسان عربي، الخليج يريدنا أن نكون مثل باب الحارة، بإساءته للمجتمع السوري عموماً، والنساء بشكل خاص، نحن لسنا كذلك عندنا كوليت خوري ونجاح العطار وإلفت الإدلبي وثريا الحافظ وجيهان الموصلي وعندنا رئيسة لمجلس الشعب، والأهم عندنا صديقي ذاك الجندي الجالس في العراء وبيده تقرير مصير سورية.
تشرين