عبدالله الحسني
جدل
الفوتوغراف بين الحضور الزائف ورمزية الغياب
الكتاب -وكما تشير مؤلّفته- بدأ بمقالة واحدة حول المسائل الجمالية والأخلاقية، طرحتها كلّية وجود الصور الفوتوغرافية، وكلما فكّرت الكاتبة حول ماهية الصور الفوتوغرافية كلما غدت أكثر تعقيداً وإيحاءً، ولذا فكل مسألة أنتجت أخرى، وهكذا – اطّراد من المقالات حول معنى ومسيرة الصُّور الفوتوغرافية حتى قطعت سونتاغ شوطاً كافياً بحيث أن المناقشة التي طرحت في المقالة التي تليها، والتي صارت موثّقة ومستطردة في المقالة الثانية كان يمكن أن تكون مجملة وموسّعة بطريقة أكثر نظرية؛ ويمكن لها أن تتوقّف.
ولم تغفل الكاتبة الإشارة في المقدمة إلى عادة الجنس البشري في التلبُّث على نحو عنيد في كهف أفلاطون وتنعّمه بالمتعة البالغة في محض صور من الحقيقة والتربّي على الصور الفوتوغرافية لافتة إلى الكثير جداً مما حولنا من الصور التي تستحقّ انتباهنا منذ بدأ هذا الاختراع عام 1839 ليصبح بعدها كل شيء مصوّراً فوتوغرافياً ليبدأ معه النهم المطلق للعين الفوتوغرافية والذي علّمنا شفرة بصرية جديدة بدّلت الصور الفوتوغرافية ووسّعت من مفاهيمنا عما هو جدير بالنظر حول حقّنا في المراقبة لافتة إلى وجود ما هو أهم والذي تعني فيه “أخلاقيات الرؤية” لتؤكد في النهاية إلى أن النتيجة الأكثر تعاظماً للمشروع الفوتوغرافي هي منحنا الشعور بإمكانية استيعاب العالم كلّه في أذهاننا- كأنطولوجيا الصُّور.
ولا تتوقف سونتاغ عند هذا الحد في تناولها العميق للصورة بل إنها تذهب إلى ما هو أبعد، إذ تشير إلى أننا عندما نصوّر، فإننا نستولي على الشيء المُصَوّر مما يعني أننا نضع أنفسنا في علاقة معينة مع العالم تشبه المعرفة- وبالتالي السُّلطة. ويتخلل كتاب سونتاغ ومضات لامعة وحاذقة فهي تعتبر التصوير يسجّل لكل عائلة تاريخاً صورياً وباعثاً للذكريات فهو أيضاً يمنحنا استحواذاً متخيّلاً لماضٍ هو غير واقعي كما أن التقاط الصور هو طريقة للتصديق على تجربة وربما ايضاً رفضها مؤكدة أن الصورة الفوتوغرافية ليست نتيجة اللقاء بين الحدث والمُصوِّر الفوتوغرافي فحسب، بل إن التقاط الصورة هو بحد ذاته حدث، كما تلفت إلى أن الصورة الفوتوغرافية هي حضور زائف ورمز للغياب معاً مثل موقد نار موقد في غرفة، وتشير إلى أن الصُّور -خاصة تلك التي تمثّل ناساً بعيدين أو منظراً بعيداً ومدناً بعيدة، وماضياً مندثراً- هي باعث على أحلام اليقظة فيما تعلن أن المعرفة الفوتوغرافية للعالم هي تلك التي يمكنها، في النهاية أثناء نخسها الضمير، أن لا تكون أبداً معرفة أخلاقية أو سياسية وبالتالي فإنّ المعرفة التي تكتسب من خلال الصور الفوتوغرافية الساكنة ستكون دائماً نوعاً من المعرفة المفرطة سواء كانت ساخرة أو إنسانية.
الكتاب -رغم قلة صفحاته 239 صفحة- إلا انه من التنوّع والعمق والشمول ما يستحق معه تناولا أطول لكنه في النهاية سفر ثقافي تخصصي وفلسفي عميق ومدهش جدير بالقراءة.