نشر بواسطة Youness EL Alaoui
صفحة مجلة فن التصوير ترصد لكم الخبر:صديق المبدعين الفنان أحمد بن إسماعيل.. التشكيلي و الفوتوغرافي
مراكش- المغرب.
من منا ينفلت من رؤية الجسد في أعمال بن إسماعيل؟ ليس الجسد بأعضائه، بل برغباته وأحلامه وأوهامه، في اتجاه يقودنا إلى أن نعي تلقائية أشياء اللوحة، لا اعتباطيتها، ويجعلنا ندرك التناغم والانسجام الجمالي، وهو سر انجذابنا نحو هذه الأعمال، وإحساسنا بالدنو من عالمها..
فمن التفريغ إلى الملء، ومن الشيء إلى اللاشيء، ومن الهدم إلى البناء يواصل الفنان تشييد لوحاته بملاءاتها البيضاء الشفيفة مقابل أخرى متباينة تختفي وراء انصهار المواد الحالكة وتعريجاتها التي تمتد لعشقه للأرض والتراب.. لوحات ذات تأثيرات بصرية نابعة من اختباراته المتتالية للمادة واللون واستثمار تحوُّلاتهما فوق السند..
والواقع أن الفنان بن إسماعيل «يمتلك ألوانه الخاصة»، كما أكد ذلك الكاتب المغربي الراحل إدموند عمران المالح، وهو بذلك يُمارس سلطة المحو ليتخلّص من بقايا تجارب صباغية سابقة مؤسسة على اللون وعلى أسلوب توظيفه، لذلك أضحت لوحاته، من هذه الوجهة، عالماً من الأشكال العضوية والبقايا والآثار المبصومة بحس تلقائي، عبثي بمعنى خاص يكشف عن الرغبة في اختزال المسافات وطيِّها..لكنها تظلّ – مع ذلك- محتفية بانتمائها وجذورها على إيقاع البياض والسواد وكأن الفنان بهذه الاستعمالات يُعيد رسم «آثار الليل» التي اشتغل عليها سابقاً فوتوغرافياً. يذكرنا ذلك بمعرض باب دكالة في مراكش (1994) قبل تجربة الإرساءات (أنستليشن) المدعمة بشموع وضاءة وموسيقى طقوسية أضافت عمقاً صوفياً على الفوتوغرافيات المعروضة فوق سطح منزل عتيق بحي سيدي بن سليمان الجزولي، حيث ينبت ضريح أحد رجالات مراكش السبعة
لابد عند مقاربة هذه الأعمال الفنية، من استحضار هذا المسار الإبداعي، بكل تجلياته ومظاهره المتعددة؛ من التصوير الفوتوغرافي إلى الأعمال الصباغية، فليس هناك قطيعة بين المجالين، خصوصا أن بن إسماعيل لم يغادر الفوتوغرافيا هكذا فجأة، بل عبر الجسر إلى الصباغة بعدما جمع بين المجالين لمدة غير قليلة، في الفترة التي كان يقيم فيها بمدينة الدار البيضاء، رفقة مجموعة من الكتاب والمبدعين المغاربة والعرب، وخصوصا صديقه الروائي يوسف فاضل الذي ابتلاه بالصباغة، ومعه سكنه عشقها، ذات زمن بيضاوي جميل..
هل من الممكن أن ننسى معرضيه الأساسيين في تاريخ التصوير الفوتوغرافي بالمغرب، وأعني بذلك العمل الفني المتميز الذي جمعه بالمخرج السينمائي محمد أبو الوقار: ‘حكايات صوفية’، بدآ الاشتغال عليه سنة 1987، وأقاما المعرض سنة 1990 بقاعة المعمل بالرباط، وبالمعهد الفرنسي بمراكش. عمل / تجربة متفردة اجتمع فيها الفوتوغرافي بالمخرج، ولم يكتفيا بالتقاط عناصر الواقع كما هي، بل كانت يد تشكيلية تلمس الموضوع لتدفع به إلى أبعاد جمالية أخرى.. وبذلك انبنى العمل على التصوير والتشكيل والإخراج.
أما العمل الثاني في مجال الفوتوغرافيا فيتمثل في المعرض الذي أقامه سنة 1994 بقاعة باب دكالة بمراكش، تحت عنوان ‘آثار الليل’
و إلى جانب هوسه بالصورة، يعتبر “إبن إسماعيل” واحدا من المعالم التشكيلية البارزة بالمدينة الحمراء، بعدد من الأعمال الفنية المبنية عن بحث عميق و اطلاع كبير بأصول الفن و أبعاده.
بقدر ما يستثمر العلامات والرموز البسيطة والمتداولة، بقدر ما يجتهد الفنان التشكيلي المغربي، أحمد بن إسماعيل، في منحها دلالات جديدة، وفق رؤية مخصوصة وتناول طريف لا يكف عن تطوير حضورهما فوق محامله؛ ورقاً وقماشاً، وخصوصاً بإعطائها، من معرض إلى آخر، نفساً جديداً وحياة مغايرة.
لبن إسماعيل، قبل أن ينتقل – منذ أزيد من 15 سنة إلى مجال التصوير الصباغي- تجربة امتدت لأكثر من عقدين في مجال التصوير الفوتوغرافي. في أعماله الصباغية، كما في تجربته الفوتوغرافية السابقة، تبرز روح طفولية تتبدّى من خلال افتتانه بتجليات عناصر البسيط والعابر والمنفلت والهش، دونما تكلّف أو افتعال. إنه اشتغال هادئ على ما تلتقطه مشاهداته اليومية داخل الأحياء الهامشية – أحياء مدينة مراكش التاريخية – وتوظيف ذكي لما تحبل به جدران أزقتها وحواريها العتيقة من علامات الرطوبة وكتابات مهملة وخربشات وموتيفات خطتها أياد عابرة، وحدها العين النبيهة تلتقف دلالاتها الخبيئة، قبل أن تقوم يد الفنان بإعادة توطينها في لوحته.
لا يقتصر تعامل بن إسماعيل مع الأشكال المستمدّة من مشاهدات الواقع اليومي على نقلها نقلاً صريحاً أو ساذجاً، وإنما يقوم بمعالجتها – وفق تصوّر فني خاص- تتجاور فيه مفردات اللون والكتلة والحجم والمساحة في تفاعل وتكامل، بما يُفضي إلى تساوق هذه العناصر مجتمعة، خالقة هرمونية إيقاعية تميل إلى البوح وإلى التلميح، سواء عند استعمال اللون أو العلامة أو استغلال الفضاء، أكثر من انخراطها في الحكي وفي الإفصاح الصريح. يبدو هذا الأمر واضحاً عند توظيف الفنان لعنصر اللون. إذ غالباً ما تحفل أعماله بحضور لونيّ متخفف وفقير (أو تفقيري بالأحرى)، قد يكون مفرداً أو مزدوجاً في أفضل الأحوال، مع استثمار ذكي للتدرّج الذي يخضع له اللون الواحد، والذي غالباً ما يكون أحمرَ آجورياً؛ لون جدران مدينة مراكش، مع إضافة بقع لونية تعطي قيمة تأويلية مضافة للعلامات الغرافيتية الطلسمية التي يقوم بتوظيفها في بناء عمله الفني .
فالفنان ابن إسماعيل، كما يصفه الشاعر حسن نجمي، «يرسم العالم من حوله، كأنه يهرب من منطق الكبار إلى تلقائية الطفولة الموزعة بين الأشكال والألوان والعلامات الطازجة»، مضيفاً أن هذا الفنان الناضج «يعرف كيف ينظم فضاء اللوحة، وكيف يستثمره وينضده، وكيف يقيم حواراً بصرياً ثرياً بين مختلف المكونات، ممسكاً بالظلال السحرية، التي يتيحها اللون والعلامات والرموز الطلسمية، التي برع في توظيفها لبناء صرح فني شاهق ومتماسك، ومشتغلاً على المغموس في الذات والعابر في الأشكال والأزقة والحارات القديمة في مراكش».
أما الروائي المغربي إدموند عمران المالح فيرى أن بن إسماعيل «يتبع، منذ سنوات عديدة، مساراً تشكيلياً يستحق شيئاً من الاهتمام. فمن خلال هذه الأشكال، هذه الدوائر، المتفاوتة الوضوح، وهذه الزوايا، وهذه المربعات، وهذه الأسهم، التي تحتشد بها اللوحة، يتم استحضار عالم السحر، والكتابة الطلسمية، الشذرية، المتفرقة لتأكيد عدم مقروئية لغزه. عالم السحر الراسخ بعمق في الجسد ذاته لمجتمعنا، وفي أعماق تقاليده، وفي الحياة اليومية، عالم من القوة، ومن كائنات لا مرئية، يروج فيه، في صمت، كلام الرغبة والعاطفة. مفارقة في الظاهر، وتشابهات غير محسوسة».
فيما يذهب الناقد الجمالي المغربي إبراهيم الحسين إلى أن هذا الفنان «يُمارس نوعاً من التداعي الحُرّ واللعب المبني على روح الاكتشاف، وكأنه بذلك يُعلن موقفاً ضِدَّ الجد. فهو يقوم بنشاط صباغي طوعي، وقبل ذلك فوتوغرافي، يعتمد فيه على الطاقة الذهنية والجسمية والتخييل لخلق سبل المتعة والاشتهاء البصري بما يشبه الطفل في علاقته باللعب الذي هو عالمه وملاذه وحياته».