يعتبر جواد سليم (جواد محمد سليم علي عبدالقادرالخالدي الموصلي) أحد أهم مؤسسي الحركه الفنيه المعاصره في العراق وقد أستطاع بزمن قصير أن يضع بصمته الخالده في الفن وعلى ألأرض , لم يكن ألأمر صدفه كما يحصل لفنانين خدمتهم الفرص والضروف بل على العكس تماما فكانت رحلة جواد رحله صعبه ومرهقه حيث أضطر الى السفر بين بغداد وأوربا حتى في فترة الحرب العالميه الثانيه ولأن جواد أنسان حقيقي بجانب كونه فنان أستطاع أن يصمد ويجتهد وكأن الفن قدره وكثير ما كان أحساسه بأنه سيغادرنا مبكرا كما حدث فعلا وربما هذا ألأحساس كان له حافز يدفعه للعطاء ساعده في ذلك والده الحاج سليم وشجعه أنتمائه الى عائله فيها الفن يجري في العروق فنجد نزار وسعاد ونزيهه سليم جميعهم ساهموا في أغناء الفن العراقي لكن أنفرد جواد بأفكاره المتحرره ونظرته اللبراليه في الحياة, تقول لورنا في مذكراتها تصف جواد عند بدء العلاقة بينهما بأنه فنان بوهيمي في ثيابه وفي تصرفاته وأقواله، ولهذا السبب لم يكن يبدوعراقياً بشكل واضح، بل كان يحاول الابتعاد عن أنماط التصرفات التقليدية للطلبة العرب، ويسعى إلى رسم شخصية خاصة به متفتحة على كل ما هو جديد ومختلف, انجذبت لورنا إلى ذلك الطالب الذي لا يشبه الآخرين، والميال ميلاً شديداً الى الفكاهة والمهتم بالموسيقى والشعر وحفلات الباليه. لقد أدركت منذ لقائها الأول به أنها أمام شخص تستطيع أن تثق به، وليس من طبعه التضليل، وشعرت بأنه صادق ومنفتح جداً على الأصدقاء، بحيث إن صداقتها له نمت بالتدريج حتى أصبح حباً
(صورة جواد ولورنا)
ولد جواد في أنقره في 1919 من أب وأم عراقيون وسرعان ما أنتقلت العائله الى السكن في مدينة بغداد محلة الفضل ومع مرور السنين تحول بيت الحاج محمد سليم والد جواد الى نقطه بدايه لما يسمى بأصداقاء جماعة الفن وفي سن الحاديه عشر حصل على أول جائزه له حيث كان يعمل أشكال نحتيه من الطين وفي سن الشباب ذهب للدراسه في زماله مدرسيه من قبل الملك فيصل ألأول ليدرس النحت في أيطاليا وفرنسا ثم عودته الى بغداد في عام 1939 مع بداية الحرب العالميه الثانيه كما فعل فنانين أخرين ..
كانت بغداد خاليه من معارض فنيه أو قاعات مخصصه للفن حيث ذكر جواد في أحدى رسائله الى أحد المقربين “بغداد هادئه نسبيا فيما أوربا توقفت بسب الحرب وهي فرصه للفنانين والمثقفين أن يعملوا بهدوء رغم كل شئ ” في ذات الوقت تم أفتتاح معهد الموسيقى الذي تحول فيما بعد الى معهد الفنون الجميله بسعي جواد وأخرين فتولى جواد قسم النحت فيه حتى وفاته في 1961, تخطى جواد بفنه حدود الوطن العربي وحاكى في أعماله فنانون عالميون مثل النحات هنري مور وبيكاسو وحتى ألأنطباعيون مثل ماتيس وكَوكَان, ثم تميزت أعمال جواد والمسمات بغداديات بتسجيل دقيق للتراث العراقي ونال أول جائزه دوليه حيث كان الفنان الوحيد المشارك من منطقة الشرق ألأوسط في تلك المسابقه بعمل نحتي وهو السجين السياسي المجهول أما نصب الحريه الذي يتوسط بغداد فيعد من أهم النُصب في الشرق ألأوسط
نصب الحرية
أشكالية جواد كانت هي التوليف بين الغرب والشرق ولكنه نجح بشكل يدعوا الى التأمل وألأعجاب فنجد لوحته الشهيره (الشجره القتيله) تتحدث عن أزمة الفكر ألأنساني أينما يكون حيث يقول عباس الصراف في كتابه عن جواد سليم
الشجرة رمز الحياة…رمز العطاء، جذعها صامد اكتسى بلون الارض الام لانه وليدها وكلما نما واشتد تصلب واصبح صلداً لا تنال منه العوارض الطبيعية فهوالانسان بصلابته يواجه المصاعب والعقبات فتزيده تجربة وخبرة صموداً ثم تلك الاغصان اليانعة ترمز خضرتها الى الامل والخلق، فتهوى عليها الفأس البليدة وتحيلها الى حطام فهي الانسان في نتاجه العقلي تسلبه العقول الغبية لتطعمه النار.ثم اقتلاع ذلك الجذع الجبار وفصله عن جذوره بتلك الايدي الجاهلة هو قطف رأس العبقري وحرمان البشرية من أفكاره
ان شراسة وقساوة قاطعي الشجرة متمثلة في تلك الخطوط المتداخلة الصارمة على وجهيهما وعضلاتهما وحركاتهما المرتبكة ، ووضعيتهما القلقة لانهما في حالة اتيان جريمة ثم تلك السحنة الداكنة التي تنم عن عنجهية وجبروت وكذلك الرأسان الصغيران اللذان يحملهما الرجلان يدلان عن تفكير بليد ساذج وتلك الضحكة الرعناء التي تنطلق من احدهما دليل النشوة والانتصارولكنها نشوة الجبان المنتصر انها سخريتك يا جواد من الجبناء المنتصرين تضارعها سخرية الكاتب الاسباني (سرفانتيس) من بطل قصته (دونكيشوت) وهناك شخص وقد تقطب وجهه لان الفأس لم تطاوعه لقطع ذلك الغصن الصلب الذي اغضبه وارعبه لشموخه وعناده كما ارعب(سبارتكوس) جلاديه وهو على خشبة الاعدام فطفق ذلك الجبان يتخبط بحماقته ولكن انى له ان يزيل الشجرة فلئن قطع جذعها فهناك الجذور الكثيرةالتي ستنبت جذوعاً وترسل اغصاناًوتنتج ثماراً وتلك المرأة المغلوبة على أمرها منحية بعطف وحنان على تلك الحزمة من الاغصان القتيلة وهي تهم بحملها وتنظر لها نظرات ذات الف معنى فما اشبهها ب (عشتار) حين اقامت مأتماً على فخذ الثور السماوي الذي رشقها به (انكيدو) بعد ان اجهز عليه هو وصاحبه (كلكامش) فطعناه طعنه قاتلة ومزقا احشاءه شرممزق, ولئن اقامت عشتار وبنات المعبد مأتماً للثور السماوي فان تلك المرأة انحنت برقة وعطف لتحتضن تلك الاغصان والاصال ولتدفنها في التراب بعيداً عن ذنيك الشخصين المتجبرين لتستعيد الحياة من بقايا رمم ذلك الثور السماوي ولتتكاثر الاشجار.انت تلك اللوحة يا جواد تمثل عنصري الخيروالشر في الانسان، الشر متمثل بالرجلين في ضراوتهما وحقدهما وجهلهما وقساوتهما وطيشهما والخير تلك الفتاة برقتها وهدوئها وحبها وعطفها ونظراتها الحائرة..انها الحياة والموت ، الموت يكمن في تلك الفأس المحطِمة، وتلك السكينة القاتلة، والحياة تلك الأنامل الحساسة التي عطفت على بقايا شجرة لتتخذ منها اكليلا اخضر تزين به كوخها القفر
لوحة الشجرة القتيلة
جواد ألفنان وألأنسان لم يدخر جهدا لنشر الفن الهادف الى التحرر من العبوديه وأنطلاقة الفكر أبدع في النحت وكذلك الرسم وقاد جيل من الفنانين من بعده رحل عنا بسرعه ويذكر المرحوم خالد القصاب عن أخر يوم في حياة جواد فيقول:
في شهر كانون الثاني 1961م، أصيب جواد سليم بنوبة قلبية مرة أخرى، وكان قد أصيب بنوبات متعددة أثناء دراسته في انكلترا وفي ايطاليا، عندما كان مرهقا بعمل نصب الحرية لثورة 14 تموز 1958م، واذكر انه شكا لي من الم في صدره ونحن في سيارتي قاصدين مطعم (الباجة) في شارع الشيخ عمر بعد منتصف الليل
ادخل جواد بصورة مستعجلة إلى الردهة الثامنة في المستشفى الجمهوري، ولازمته هناك مع الدكتور سالم الدملوجي (صديقنا الحميم وأستاذ الأمراض الباطنية في وقت لاحق) وأجريت له كل ما تطلبه حالته، وكانت زوجته (لورنا) تلازمه طيلة الوقت .. غطوا وجهه الشاحب بقناع الأوكسجين وربطوه بأنابيب طبية متعددة. تحسن وضعه في الأيام الأولى لكنه أصيب بنوبة قلبية ثانية فجلل العرق وجهه ونزل ضغطه وبدا عليه صعوبة في التنفس وعطش للأوكسجين مع حالة من هذيان يصاحب عادة هذه الحالات قال لزوجته: (تصوري إني أراك الآن ملاكاً .. تصوري أنت لورنا ملاك) ثم علت وجهه ابتسامة ساخرة
اختفت فجأة وجمدت عيناه فتوقف كل شيءأصابنا الوجوم أنا وسالم ولورنا، ففصلتُ عنه أنابيب الأوكسجين والتغذية وهو بلا حراك، مات جواد ولم يتجاوز عمره اثنين وأربعين عاماً وانتقل بذاكرتي إلى غرفة الأموات المظلمة في المستشفى، وجسد جواد مسجى على منضدة (البورسلين) الأبيض، سال من الأعلى خيط نور صغير ليخترق الظلمة ويسقط فوق وجه جواد
وفي ركن الغرفة تجمعت ظلال الأصدقاء تبكي المشهد الكئيب, حافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وسعد شاكر ومحمد عبد الوهاب وباهر فائق وسالم الدملوجي وانبرى النحات خالد الرحال يخفق بيده عجينة (البلاستر) يغطي بها وجه جواد ولحيته ليعمل منها قناعاً لوجهه والدموع تنهمر من عينيه، تكسر القناع عدة مرات لرداءة المسحوق، فأسرع سعد شاكر في الذهاب إلى معهد الفنون الجميلة لجلب مسحوق بديل، فأعاد الرحال عمل القناع مرة أخرى، وهنا أطلق باهر فائق صرخة من قلب الظلام (خالد لاتخنق جواد)، وانخرط الجميع بالبكاء
توفي جواد صبيحة يوم 23 كانون الثاني 1961م، وشُيع جثمانه بعد الظهر من معهد الفنون الجميلة في الكسرة بجمع مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة الاعظمية, ركب إلى جانبه بالقرب من التابوت في السيارة التي تحمل النعش فائق حسن واخو جواد سعاد سليم وإسماعيل الشيخلي وفرج عبو وسارخلف السيارة مشياً على الأقدام عميد معهد الفنون الجميلة وأساتذته والشاعر محمد مهدي الجواهري والفنانون وطلاب المعهد, وكان شكري المفتي معاون عميد المعهد قداتصل بشباب الاعظمية لاستقبال الموكب استقبالاً يليق بما يستحقه من احترام ودفن في مقبرة الخيزران في ألأعظميه
أما لورنا التي تعرف عليها في لندن حيث درس للأعوام / 1946-1949 ورافقته في الحياة كزوجه وحبيبه كانت كل ماتمر بعازف كَيتار تتوقف لترمي بالنقود لعل جواد يبتسم حيثما يكون أما جواد فهو الذي قال :
(الفن قطعة لموزارت قصيدة من المعري صفحة من موليير والفنان الجيد يخدم الانسان)
حمدي الطائي/ كندا