Saad Alkassem
أعطني الناي..ولوّن
بمناسبة احتفالية المعلم الياس زيات
عند معرض الياس زيات المقام الآن (آذار 2010) في صالة رفيا تستحي الكلمات عن إدعاء فعل النقد ، فما أمامها جديدُ عراقةٍ لم تعد تحتاج تقويماً ولا تعريفاً ولا تفسيراً، لا لأننا أعتدنا وصف صاحبها بالفنان المعلم فحسب،وإنما لأن في ثراء الحالة ، وعمقها، وغناها ما يدعونا للاستماع إلى الأصوات المتصاعدة من بين الخطوط و الألوان. ألم يقل ثروت عكاشة يوماً أن العين تسمع والأذن ترى .وتحت هذا القول أهدى الثقافة العربية بعض أثمن الكتب المؤلفة والمترجمة..لتضاف إلى إنجازات ثقافية نقلت إحداها (أبو سمبل) ليطل من علٍ على واديه القديم وقد غمرته مياه الخير والعطاء ..فكيف لا يُقتدى برائد مشروع حضاري لا تزال شواهده تواجه مد الأمية والضحالة و(ثقافة) الاستهلاك .؟ وما الذي تسمعنا إياه لوحات الفنان المعلم ؟
إنها تحكي عن أصالة حالة خلاّقة تجد غايتها في وصل ما أنقطع من تراثنا الإبداعي البصري حتى اجترأ من اجترأ على إنكار ذلك التراث برمته فاصلاً بين زهور إبداعاتنا الراهنة وبين جذورها الحقيقية المنغرسة في الأرض ذاتها، فجاءت اللوحات لتقول لنا أن أنظروا بين حناياي إلى وجوهكم المرسومة على الجدران منذ ستة آلاف من السنين ، إلى بيوتكم التي شيدت يوم شيد الإنسان بيتاً أول مرة ، إلى حقولكم التي عرفت كيف تُزرع فتعطي يوم حاورتها أياديكم ومعاولكم الأولى..إلى رسومكم على اللوحات المقدسة،إلى خطوطكم المنسابة كالسحر تبجل سحر الكلمة..
تحكي عن الإنسان المتفكر في الكون والحياة، عن العقل وأسئلته السرمدية، عن الروح العاشقة للجمال، عن النفس التواقة للقاء..وهي تحكي عن عبقرية الصنعة الماهرة ، وعن العين تجمع في رؤيتها ورؤاها ألوان ما اجتمعت في المكان عينه ، لكن أعانت على لقائها معرفة راسخة ،وإطلالة من الماضي إلى الأتي . فكان جبران عنواناً لهذا كله: في فكره، في شعره،في رسومه،في تأمله، في رؤاه، وفي انتمائه..
تحتفل لوحة زيات بجبران ، بكل ما يعنيه جبران،وهي الجديرة أن تفعل هذا فهي وإياه تنتمي إلى ذات الأرض ، إلى ذات الثقافة. وهي وإياه تمتلك الرؤية نفسها : إلى الإنسان، وإلى الحياة..لا تقف اللوحة إلى جوار النص الأدبي كرسم تفسيري كما كانت تفعل أيام تباهي خلفاء بني العباس بكنوزهم من الكتب . فهذا لم يعد يليق بها بعد أن صارت تفخر بكيانها الحر .وهذا أيضاً لا ينسجم مع صاحب النص وهو المبشر بالحداثة في أدبه ، وفي لوحاته.تحتضن اللوحة النص الشعري بين ألوانها وأشكالها ، مستعيدة روح المخطوطة برؤية زماننا . يأخذ اللون معناه من دلالات الكلمة. وتكتسب الكلمة مبرر وجودها هنا من دلالات اللون، ويكمل امتزاج خط الحرف مع خط الشكل تناغم الجوار حتى في تضاد الألوان ،فهو ترجمة لتضاد المشاعر والانفعالات في كلمات الشاعر ، وفي أشعاره..
هل يبقى بعد ذلك مهماً الحديث عن تقنية استخدام اللون، وعن الفارق بين ألوان الزيت وألوان الماء،وكل ذلك مما يسجل لزيات تجليه فيه؟
لوحة زيات لا تحكي كل هذا فحسب ، إنما تدعو للتأمل أيضاً ، ويكفي ما تستحضره فينا لوحة الناي :كلمات جبران ، وصوت فيروز،وتراث الرحابنة،وخطوط زيات, وذكريات الأفراد والجماعات ..وذلك اللقاء الخلاق بين صنوف الإبداع في رحم ثقافة واحدة .
ثقافة تترفع على أصوات التجزيء وتزييف الانتماء وانتحال صفات هي بريئة منها..
*نشرت في صحيفة”الثورة” – الثلاثاء 8-3-2010